دبي، الإمارات العربية المتحدة (CNN) -- تمكن العلماء من إنشاء أول خريطة دقيقة ثلاثية الأبعاد لدماغ الثدييات، باستخدام جزء صغير للغاية من نسيج دماغ فأر، لا يتعدّى حجم حبّة رمل.
وتُظهر هذه الخريطة الشكل، والوظيفة، والنشاط الخاص بـ 84,000 خلية عصبية، عبارة عن بُنى متفرّعة تبعث الرسائل عبر أذرع طويلة تُعرف بالمحور العصبي، وتنتقل عبر أكثر من 500 مليون مشبك عصبي، بالإضافة إلى توثيق 200,000 خلية دماغية.
يحتوي هذا الجزء الصغير من الدماغ على ما يُعادل 5.4 كيلومترات من الأسلاك العصبية، أي ما يقارب مرة ونصف طول سنترال بارك في مدينة نيويورك الأمريكية.
يُعد هذا العمل تتويجًا لعقد تقريبًا من الأبحاث التي أجراها 150 عالمًا في 22 مؤسسة بقيادة معهد آلن لعلوم الدماغ وكلية بايلور للطب وجامعة برينستون.
في مقطع فيديو شاركه المعهد، قال الدكتور فورست كولمان، المدير المشارك لقسم البيانات والتقنية في معهد آلن إنّ "المذهل أنّ هذه الخريطة تُغطّي فقط 1/500 من حجم دماغ فأر كامل، ورغم ذلك أنتج الفريق 1.6 بيتابايت من البيانات، أي ما يُعادل مشاهدة فيديو عالي الدقة من دون انقطاع لمدة 22 عامًا".
وقد أتاح المشروع، المعروف باسم برنامج الذكاء الاصطناعي المستوحى من الشبكات القشرية (MICrONS)، كل هذه البيانات بشكل مجاني للجمهور.
تناول الباحثون هذا الإنجاز في أوراق بحثية عديدة نُشرت في مجلة Nature بتاريخ 9 أبريل/ نيسان.

بناء خريطة لنشاط الدماغ
بهدف إنشاء هذه الخريطة المذهلة، بدأ العلماء بكلية بايلور للطب في هيوستن بتسجيل نشاط الدماغ في جزء صغير من نسيج الدماغ ، لا يتعدى 1 مليمتر مكعب، في القشرة البصرية لفأر مُختبري، وهي المنطقة المسؤولة عن معالجة ما تراه العين.
تم استخدام مجاهر متخصصة لرصد النشاط العصبي بدقة عالية على مدى أيام عدّة. لضمان أن تكون البيانات طبيعية وتعكس النشاط العصبي الواقعي، حيث حرص الباحثون على أن يكون الفأر مستيقظًا ومُحفّزًا بصريًا أثناء التصوير.
وجعل العلماء الفأر يجري على جهاز مشي صغير، فيما يشاهد فيديوهات قصيرة مدتها 10 ثوانٍ من أفلام شهيرة.
كما شملت المشاهد أيضًا مقاطع من "يوتيوب" لرياضات خطرة مثل: الموتوكروس، والزلاجة السريعة (luge)، و القفز من المرتفعات (BASE jumping)، وذلك وفق ما ورد في بيان صحفي صادر عن جامعة برينستون.
بعد إنهاء حياة الفأر بطريقة رحيمة، أخذ الباحثون من معهد آلن المليمتر المكعب ذاته من الدماغ وقطّعوه إلى أكثر من 28,000 طبقة، يبلغ سُمك كل واحدة منها 1/400 من عرض شعرة الإنسان، ثم التقطوا صورًا لكل شريحة على حدة. بعد ذلك، قاموا بإعادة تركيب الصور في صورة مركبة واحدة.
استغرقت هذه العملية بحسب الدكتور نونـو ماساريكو دا كوستا، الباحث المشارك في معهد آلن، حوالي 12 يومًا و12 ليلة، مع تناوب الفريق على العمل على مدار الساعة.
بعد ذلك، استخدم فريق في جامعة برينستون بولاية نيوجيرسي الأمريكية أدوات التعلّم الآلي والذكاء الاصطناعي لتتبع حدود كل خلية عصبية عبر الشرائح، وتلوين الخلايا العصبية لإظهار كل واحدة منها على حدة، في عملية تُعرف بـ التجزئة (segmentation).
يتم التحقق من صحة المعلومات التي وُلّدت بواسطة الذكاء الاصطناعي أو مراجعتها يدويًا من قِبل العلماء المشاركين، وهي عملية مستمرة حتى الآن.
أدّى هذا العمل إلى إنشاء رؤية موحّدة لما يسميه العلماء "المخطط الاتصالي لدماغ الفأر (connectome)"، يُظهر كيف يتم تنظيم أجزاء معينة من دماغ الفأر، ويُقدّم نظرة على كيفية تفاعل أنواع الخلايا المختلفة معًا.
لفت الدكتور سيباستيان سيونغ، أستاذ علم الأعصاب وأستاذ علوم الحاسوب في جامعة برينستون إلى أن "المخطّط الاتصالي هو بمثابة بداية التحوّل الرقمي في علم الدماغ".
وأضاف: "ببضع ضغطات على لوحة المفاتيح يمكنك البحث عن معلومات، والحصول على النتائج خلال ثوانٍ. بعض تلك المعلومات كانت تتطلب سابقًا أطروحة دكتوراه كاملة للحصول عليها. وهذه قوّة التحول الرقمي".

التحدي المستحيل
لطالما اعتُبر رسم خريطة للدماغ بهذه الطريقة تحديًا مستحيلًا، إذ قال عالم الأحياء الجزيئية فرانسيس كريك، الحائز على جائزة نوبل لوصفه بنية الحمض النووي DNA، إن علماء الأعصاب لن يتمكنوا أبدًا من الوصول إلى هذا المستوى من الفهم الدقيق للدماغ.
وكان كريك قد كتب في مجلة "Scientific American" خلال عام 1979: "لا فائدة من طلب المستحيلات، مثل، مخطط الأسلاك الدقيقة لمليمتر مكعب من نسيج الدماغ، والطريقة التي تطلق بها جميع الخلايا العصبية فيه إشاراتها".
تعتمد خريطة "المخطط الاتصالي" لدماغ الفأر على أعمال سابقة مماثلة أُنجزت على كائنات أصغر، حيث اكتمل مخطط الدماغ الكامل لدودة الربداء الرشيقة C. elegans في عام 2019. وكشف العلماء في عام 2024 عن خريطة لجميع الخلايا العصبية في دماغ ذبابة الفاكهة.
وأشار الباحثون إلى أنّ مليمترًا مكعبًا واحدًا من دماغ الفأر يفوق بنحو 20 مرة دماغ ذبابة الفاكهة، ويُعتبر أكثر تعقيدًا.
لكن، يتمثّل الهدف برسم خريطة كاملة لدماغ الفأر في المستقبل القريب.
قال الدكتور كولمان إن رسم خريطة للدماغ البشري بمستوى التفاصيل ذاته على مستوى المشابك العصبية، أمر صعب، موضحًا أن "الدماغ البشري أكبر بحوالي 1500 مرة من دماغ الفأر، وهذا يُضيف عددًا هائلًا من التحديات التقنية والأخلاقية التي تعيق تحقيق ذلك".
وأشار الدكتور كلاي ريد، الباحث الأول في علوم الدماغ بمعهد آلن، إلى أن تتبّع المحاور العصبية في الدماغ البشري قد يكون ممكنًا، حتى إن لم يكن ذلك على مستوى المشابك العصبية. مستدركًا بأنّ "احتمالية إعادة بناء الدماغ البشري بالكامل على مستوى جميع الاتصالات، أمر مستبعد مستقبلًا".
طريقة جديدة لدراسة مرض الزهايمر
من جهتها، قالت الدكتورة مارييلا بيتكوفا، الباحثة المشاركة، والدكتور غريغور شوخنيشت، الباحث بعد الدكتوراه، وكلاهما من قسم البيولوجيا الجزيئية والخلوية في جامعة هارفارد، إن القشرة الدماغية الحديثة (neocortex) تُعد منطقة مثيرة للاهتمام في الدراسة، لأنها تميز أدمغة الثدييات عن أدمغة الفقاريات الأخرى.
وكتبا في مقال رافق نشر الدراسة:"ركّز الباحثون على هذه المنطقة لأنها تُعتبر بالمجمل مقر الإدراك العالي، وتلعب دورًا رئيسيًا في الإدراك الحسي، ومعالجة اللغة، والتخطيط، واتخاذ القرار".
من اللافت أن هذه الوظائف المختلفة ظاهريًا تصبح ممكنة بفضل مخطّط بُنيوي يمكن العثور عليه، مع بعض التعديلات، في جميع مناطق القشرة الدماغية، ولدى جميع الثدييات.
تُستخدم فئران المختبر بالفعل على نطاق واسع لفهم الأمراض التي تصيب الإنسان، ومن شأن الفهم الأفضل لبنية ووظيفة دماغ الفأر أن يفتح آفاقًا جديدة لدراسة اضطرابات الدماغ البشري، مثل ألزهايمر، وباركنسون، والتوحد، والفصام، وهي أمراض تنطوي على خلل في الاتصال العصبي.
وأفاد دا كوستا في بيان صحفي:"إذا كان لديك راديو معطّل، ولديك مخطط الدائرة الكهربائية الخاصة به، ستكون في موقع أفضل لإصلاحه"، مضيفًا: "نحن نصف هنا ما يشبه خريطة غوغل، أو مخططًا هندسيًا لحبة رمل. في المستقبل، يمكننا استخدام هذا المخطط لمقارنة التوصيلات العصبية في دماغ فأر سليم مع تلك الموجودة في نموذج مرضي".
0 تعليق