شفرات « كلكامش».. قراءة تشكيليّة

صحيفة عمان 0 تعليق ارسل طباعة تبليغ حذف

حين رأيتُ الأعمال المشاركة فـي معرض د. صبيح كلش الذي استضافته صالة (ستال) للفنون بمسقط، وحمل عنوان (كلكامش: رموز ودلالات) وجدت أن (أنكيدو) استحوذ على وجدان الدكتور صبيح بدلا من (كلكامش) بطل الملحمة الشهيرة، وهذا دليل انحيازه للهوامش بدلا من المتون، فقد اعتاد فـي أعماله، أن يسخّر فنّه للدفاع عن قضايا المهمّشين، والوقوف ضدّ المستبدّين والطغاة، فمنذ أن أمسك فرشاته، وغمسها فـي محبرة الألوان، وضع الدكتور صبيح كلش نصب عينيه أن الفن رسالة من أجل تحقيق العدالة، والمساواة، وحفظ كرامة الإنسان، لذا اهتمّ بالمضمون دون التفريط بالشكل، ليقدّم رؤية بصرية جديدة،

من خلال الألوان، قائمة على بثّ رسائل جماليّة، ولتعزيز هذه الرسائل عاد إلى الآداب الرافدينية القديمة والأساطير، مسترجعا الماضي، باحثا عن ضالّته، ليعيد إنتاج صياغتها التعبيرية، مزاوجا بين التاريخ والعصر الحديث،

يقول د. صبيح: «لقد تبنّيت منذ بداية تجاربي الفنية قضايا الإنسان العربي ومعاناته، فكانت لوحاتي تعطي الانطباع العام بتأثيرات اللون الواحد الأزرق الممزوج بهرمونية الألوان وهو الانطباع الذي يتولّد من المزج البصري بما تتضمنه من خطوط لمدى فضائي متعدّد الأبعاد»، وحين قرأ د. صبيح (ملحمة كلكامش) التي كُتبت باللغة الأكديّة حوالي 1600-1155 قبل الميلاد،

لم يتوقّف طويلا أمام الجانب البطولي لكلكامش، والصداقة التي ربطته بأنكيدو، وحزنه عليه بعد رحيله عن هذا العالم، بل نظر لكلكامش من زاوية مختلفة، فوجد به حاكما ظالما مستبدّا، استغل قوّته وسلطته المطلقة، وسخّرها فـي السيطرة على أفراد المجتمع البابلي، فالعروس التي تحتلّ قلب اللوحة تبدو خاضعة لكلكامش، فـيما يتصدى له (أنكيدو)، وقد عبّر عن هذا المعنى فـي لوحته (أنكيدو ضد الظلم)، فـأنكيدو، فـي هذه اللوحة، هو خصم لكلكامش كونه يمثّل الضمير الحي، والثورة على الطغيان، فـيما يمثّل (كلكامش) الطاغية المستبد.

هذه القراءة المختلفة نموذج للأعمال التي شاركت فـي المعرض الذي ربما قصد بعنوانه (كلكامش) الملحمة وليس البطل الأسطوري، ومن بينها لوحته (الصراع يقود إلى السلام) و(كلكامش وأنكيدو)، وفـيهما يواصل سرد الصراع بين البطلين عندما «وقف انكيدو فـي الدرب وسدّ الطريق بوجهه، فرأى كلكامش أنكيدو الهائج الذي وُلد فـي البرية، وهو يجلّل رأسه الشعر الطويل، فأنقضّ عليه وهاجمه، فسدّ (انكيدو) باب (بيت العرائس) بقدميه، ومنع (كلكامش) من الدخول إلى الفراش أمسك أحدهما بالآخر، وتصارعا، وخارا خوار ثورين وحشيين حطّما عمود (قائم) الباب، وارتجّ الجدار» كل هذه المعاني، المكتظة، بالرموز، ذات الطابع التعبيري جسّدها د. صبيح فـي لوحاته خارجا على المألوف متحرّرا من القوالب الجامدة وهو يتحدث عن محنة الإنسان المعاصر،

مازجا بين الواقعي، والتجريدي، فهو يأخذ من الواقع الموضوع الذي يشكل المادّة الأوليّة، اللازمة لصياغة رؤيته، ويضفـي عليها من فـيوضات مخيّلته الخصبة، واعتاد أن ينهل من الموروثات الشعبية رموزا تأتي على شكل خطوط، وشظايا سردية، وألوان مستلّة من البيئة، ويزاوج ذلك بما يتّصل بالفن الرافديني القديم، مع العمق الذي يعطي بعدا ثالثا للوحة، وفق قواعد المنظور الفني، وتدخل ضمنها المساحات الهندسية، التي اعتاد الاشتغال عليها فـي رسم الوجوه على شكل دوائر، ومربّعات ومثلّثات، ومستطيلات، كلّ هذه التفاصيل تمنح أعمال د. صبيح كلش هويّة تفرّد بها عن فنّاني جيله، ووضعته فـي مصاف الفنانين العراقيين والعرب المهمّين، فقد هضم المورثات القديمة، وقام بصياغتها بقالب تعبيري جديد، متسّلحا بثقافة فنّية، عميقة، فزاد موهبته وهجا خصوصا أّنّه تتلمذ على يدي الفنان الراحل شاكر حسن آل سعيد فـي المتوسطة النظامية، عندما عمل الراحل شاكر حسن معلّما للتربية الفنيّة بعد رجوعه من دراسته فـي فرنسا، فاكتشف موهبة هذا التلميذ.

واهتم به كثيرا من هنا نرى تأثّره الواضح فـي الحروفـيات والتجليات الصوفـية التي عرف بها الفنان شاكر حسن إلى جانب حضور روح الشعر فـي لوحاته من خلال الحروف والألوان والظلال، وحكاية كلش مع اللون الأزرق والشذري والبنفسجي، وسواها من الألوان التي تتّصل بالروح تعود إلى تأثره بمعطيات البيئة خصوصا أنه تتلمذ فـي كلية الفنون الجميلة فـي جامعة بغداد على يد الفنان الراحل فايق حسن، المعروف بقوة اللون فـي أعماله، قبل أن ينتقل إلى باريس ليواصل دراسته فـي جامعة السوربون، ويطلع على المدارس الفنية الحديثة وينهل منها ما يخدم تجربته ويعزّز خصوصية هذه التجربة التي تظلّ مشدودة بخيوط لا مرئية للفن السومري والبابلي ومنمنمات يحيى الواسطي فـي الفن الإسلامي الذي يعد أحد أهم مؤسسي مدرسة بغداد للتصوير، كما رأينا فـي رسوماته لكتاب (مقامات الحريري)، كلّ تلك الإشارات، والتجارب، والقراءات البصرية، ودراسة تاريخ الفن العالمي فـي جامعة السوربون، شكّلت خلفـيّة ثقافـيّة له، أدخلها فـي مصهره الفنّي، فكشف عن الرموز والدلالات الكامنة فـي ملحمة (كلكامش)، كما رأينا فـي معرضه الجديد.

إخترنا لك

أخبار ذات صلة

0 تعليق