دبي، الإمارات العربية المتحدة (CNN)-- في يوم ربيعي رطب، وضعت جيسامين هارتر حقيبة ظهر قماشية مهترئة، وانطلقت باتجاه جبلٍ يبلغ ارتفاعه 168 مترًا على جزيرة نائية وسط المحيط الهادئ.
لم يكن لديها الكثير من الوقت، لكنها كانت في مهمة خاصة بها.
لتكريم جدها الراحل، استغلت هارتر كل ثانية في جزيرة "إيو جيما". وكان هذا اليوم الوحيد من العام الذي يُسمح فيه للمواطنين الأمريكيين بزيارة الجزيرة، كما أنه مخصّص لقلّة مختارة من الأفراد، في إطار جولة تنطلق من إقليم غوام الأمريكي.
أعادت الولايات المتحدة الجزيرة إلى اليابان في العام 1968، وكانت""إيو جيما" (التي تعني "جزيرة الكبريت" باللغة اليابانية) موقعًا لإحدى أهم معارك الحرب العالمية الثانية وأكثرها دموية.
وفي 19 فبراير/ شباط من العام 1945، اقتحم 70 ألف جندي من فرقتي مشاة البحرية الأمريكية الرابعة والخامسة، ولاحقًا استدعاء الفرقة الثالثة للدعم، شواطئ "إيو جيما" البركانية السوداء في معركة مع القوات الإمبراطورية اليابانية المكلَّفة بالدفاع عن الجزيرة ومهابط طائراتها، استمرت 36 يومًا.
على بُعد حوالي 1،207 كيلومترًا فقط من البر الرئيسي لليابان، اعتُبرت "إيو جيما" جزءًا أساسيًا من المجهود الحربي في المحيط الهادئ، بل وأصبحت الصور المُلتقطة خلال المعركة رموزًا بارزة.
كان مارتي كونور، البالغ من العمر 18 عامًا من سيراكوز بنيويورك، بين أفراد مشاة البحرية الأمريكية الذين هبطوا على الجزيرة في ذلك اليوم.

مثّلت تلك المهمة أول تجربة قتالية حقيقية في حياته، وقد خرج منها سالمًا رغم امتدادها لـ36 يومًا، ومن ثمّ واصل حياته، وأدار شركة تأمين، وتزوج، وأسس عائلة.
كما أنّه أصبح جدّ جيسامين هارتر لاحقًا.
بقدر ما حوّلت معركة "إيو جيما" حياة كونور، إلا أنّ ما حدث بعدها شكّل أعظم إرث له.
مهمة سلام دامت نصف قرن
في العام 1970، عاد كونور إلى الجزيرة برفقة زوجته وقرابة 30 جنديًا من مشاة البحرية الأمريكية للمشاركة في ما عُرف لاحقًا بـ"لمّ شمل الشرف"، وهو تقليد لا يزال مستمرًا حتى اليوم.

وعلى قمة جبل "سوريباتشي"، حيث رُفع العلم الذي خلّدته صورة جو روزنثال الشهيرة العام 1945، صافح كونور وزملاؤه من مشاة البحرية قدامى المحاربين اليابانيين الذين شاركوا في المعركة.
وكان الحدث أيضًا المكان الذي تعلّم فيه كونور لأول مرة عن حركة شعبية لإعادة "التذكارات" المأخوذة من جثث جنود الأعداء المقتولين إلى عائلات أصحابها الأصليين في اليابان.
تابع كونور ذلك اليوم من العام 1970 باهتمام، حين أعاد أحد جنود البحرية تذكارات إلى عائلة يابانية، إذ كان هو أيضًا يحتفظ بتذكاراته الخاصة في منزله.
وبعد مرور 25 عامًا على المعركة، أدرك أخيرًا ما عليه القيام بها.

عاد كونور إلى وسط نيويورك وحزم بعضًا من تذكاراته وأرسلها إلى قبطان سابق في البحرية الإمبراطورية تحول إلى راهب بوذي التقى به خلال لمّ الشمل، يُدعى تسونيزو واتشي، الذي كان يبحث عن علامات مميزة على هذه الأغراض للعثور على أفراد العائلة الناجين.
كانت معلومات وفاة الجنود، من حيث الزمان والمكان والكيفية، مفقودة لدى العديد من العائلات في اليابان.
وقد شكّل اقتناؤهم لأثرٍ من أسلافهم، كعَلَم معركة أو مذكرات شخصية، وسيلة لمنح أرواحهم الطمأنينة والسلام الأبدي.
تمكن واتشي من إعادة تذكارات كونور الأولية إلى العائلات، ومن ثمّ ألهمه ذلك، فبدأ بنشر الخبر، وسرعان ما بدأت الطرود تصل إلى منزله في سيراكيوز.
ولأكثر من 40 عامًا، أعاد كونور التذكارات إلى حيث تنتمي.

وقالت هارتر، البالغة من العمر 43 عامًا: "عندما كنت أصغر سنًا، أتذكر رؤية الأعلام اليابانية وغيرها من الأشياء في مكتبه، لكنني لم أكن أعلم ما كان يفعله وما يحدث".
وأضافت: "أعتقد أنني لم أفهم الأمر حقًا إلا لاحقًا.. وما يزيدني فخرًا بجدي أنّه كان قادرًا على فعل ذلك. وقد فعله لأكثر من 40 عامًا".
العودة إلى جزيرة "إيو جيما"
كان اليوم طويلاً وشاقًا بالنسبة لهارتر، فقد بدأ عند الساعة الثالثة والنصف صباحًا في غوام في الـ29 من مارس/ آذار.
نقلت رحلة طيران تابعة لخطوط "يونايتد" أكثر من مئة راكب من مطار غوام، في رحلة استغرقت ساعة ونصف الساعة، وصولًا إلى حظيرة الطائرات في جزيرة "إيو جيما".
من مقعدها بجانب النافذة، اندهشت هارتر من صغر حجم الجزيرة، وقالت: "لقد كانت جزيرة صغيرة جدًا لمعركة بهذه القساوة".
وتوجهت هارتر إلى جبل "سوريباتشي"، بما أنّ أول لقاء شرف حضره جدها أقيم على قمته.
وعندما وصلت إلى قمة الجبل، بدأت هارتر بالبكاء.
وكانت قد حملت أغراض جدها خلال رحلتها، بينها حقيبة القماش الأصلية التي كان يحملها طوال أيام المعركة الـ36، وواحدة من شارات فرقة مشاة البحرية الخامسة، وكتاب صغير للصلوات كان يحتفظ به في جيب زيه الرسمي.
كما اتجهت هارتر إلى إحدى شواطئ الإنزال، وجلست فوق الرمال البركانية السوداء الحارة والصخرية، متأملةً ما حدث في المكان.
وقالت في اليوم التالي بعد عودتها إلى غوام: "شعتر وكأنني حصلت على هبة لا تُمنح للكثير من الأشخاص".
عودة علم إلى الوطن بعد 80 عامًا

لم تكن هذه القصة الوحيدة التي دارت بين جد وحفيدته في ذلك اليوم.
وقد كان تشارلز كرام، جندي البحرية الذي شارك في إنزال الفرقة الخامسة للمشاة على الجزيرة، هناك مع حفيدته هولي كرام، التي تبلغ من العمر 42 عامًا.
كانت هذه هي المرة الأولى التي يعود فيها تشارلز كرام، الذي بلغ 99 عامًا قبل أسبوعين من لمّ الشمل، منذ الحرب، وقال لـ CNN: "بدا المكان مختلفًا تمامًا".
أثناء لم شمل الشرف، سلَّم كرام، الذي أصيب برصاصة في ساقه خلال المعركة، علمًا يابانيًا كان قد أخذه معه خلال الحرب.
وقالت هولي كرام لـCNN أثناء تواجدها في غوام: "أعتقد أنه أدرك أن ذلك كان علمًا ينتمي لأحد أفراد عائلةٍ ما".
هذا هو الإرث الذي تريد هارتر أن يعرفه الأشخاص، تكريمًا لجدها مارتي كونور، وتكريمًا لجميع الذين مثل كرام، اتخذوا القرار ذاته بالنظر إلى أعداء الماضي كبشر لهم أحبّة.
0 تعليق