هل الحل في الحل؟

الغد 0 تعليق ارسل طباعة تبليغ حذف

loading ad...

في عام 2002، تنافس في انتخابات الرئاسة الفرنسية في جولتها الثانية الرئيس الراحل جاك شيراك من حزب الاتحاد من أجل حركة شعبية والمرشح اليميني المتطرف جين ماري لوبان من حزب الجبهة الوطنية.اضافة اعلان

 

وقد وضع هذا التنافس الناخب الفرنسي - بما لديه من وعي سياسي أنضجه تراكم الممارسة الديمقراطية في سياقها العلماني- أمام حيرة شديدة وخيار صعب، حيث لم يكن شيراك المرشح المفضل لدى غالبية الناخبين لما ثار حوله في حينها من شبهات فساد تمحورت حول عدد من الوظائف الوهمية التي استحدثها أثناء شغله لمنصب عمدة باريس سابقا، وفي المقابل، كان جين ماري لوبان الخيار الأمر من المر لأنه يمثل العنصرية والتعصب والتطرف الذي يتناقض وقيم الدولة العلمانية التي انعقدت عليها إرادات الشعب الفرنسي منذ عقود في دستوره الذي يتصدر دساتير العالم في ما يتضمنه من قيم ومبادئ تعلي من الحرية الفردية والديمقراطية وسيادة القانون. 


لم يجد الناخب الفرنسي إزاء هذا الواقع السياسي بداً من أن يستجير بالرمضاء من النار ويختار أهون الشرين، فصوتت الغالبية لشيراك دون أن يفوتهم أن يعلنوا أنهم يفعلون ذلك مضطرين لسد الطريق أمام لوبان، لذلك دعا كثيرون منهم إلى وضع مِلقَط أو قطعة قماش على أنوفهم وهم يقترعون لصالح شيراك تعبيراً عن اشمئزازهم، وأطلقوا شعاراً قبل يوم الاقتراع يقول: “صوتوا للمحتال بدلاً من الفاشي”، ليفوز شيراك ليس نتيجة اقتناع من انتخبوه، وإنما لكون ذلك الوسيلة الديمقراطية الوحيدة المتاحة لهزيمة منافسه اليميني المتطرف دون اللجوء إلى  إقصائه أو استبعاده.


حسمت الدولة يوم أمس موقفها من جماعة الإخوان المسلمين بالتأكيد على ما سبق من قرارات باعتبارها جماعة غير شرعية ليغدو الانتماء إليها والتعاطي معها جريمةً يعاقب عليها القانون. موقفي من تيارات الإسلام السياسي وعلى رأسه جماعة الأخوان وذراعها السياسي الفاعل في الحلبة حزب جبهة العمل معروف ولطالما جلب عليَّ وغيري الهجوم والرمي بالاتهامات المعلبة المعروفة من مؤيدي الجماعة في أكثر من مناسبة. ومع ذلك، فإن هذا الموقف يظل في إطار النقاش الفكري والتحليل السياسي الذي من مقوماته أصلاً تضاد الأفكار وصراع المفاهيم ووجهات النظر.


من هنا، فثمة حاجة لمناقشة الجدوى والنتائج المحتملة على المدى المتوسط والطويل لحل الجماعة واعتبارها تنظيماً غير مشروع وما قد يلحق ذلك من حل لحزب جبهة العمل أو ربما إضعافه بفصل أعضائه الذين يثبت انتماؤهم للجماعة وهو بطبيعة الحال تحصيل حاصل، فالحزب فرع من الأصل حتى وإن حاولت بعض قياداته القفز من السفينة والنأي بأنفسهم وحزبهم عن الجماعة.

لا مراء في أن فوز حزب جبهة العمل الإسلامي بنسبة تلامس الـــ30% من مقاعد مجلس النواب الحالي؛ يعكس وجود قاعدةً شعبيةً وأساساً ينطق بمشروعية التمثيل كما باحت به صناديق الاقتراع. وقد كتب كثيرون عقب ظهور نتائج انتخابات مجلس النواب حول أسباب هذا الاكتساح الذي حققه الحزب ربيب الجماعة وممثلها في البرلمان، وكان مما أجمعت عليه الكتابات هو فراغ الساحة السياسية من أحزاب لديها أجندات وبرامج بوسعها منافسة الجماعة والحزب وسحب البساط من تحت أقدامها. إذن تخلو الساحة السياسية عندنا من أحزاب يمكن للناخب حتى أن يصوت لها مسدود الأنف كما فعل الناخبون في فرنسا لإبعاد التيارات الدينية - التي تعلي أجندتها وأيديولوجيتها على الدستور- عن السلطة التشريعية، فهل يكون الحل بتنفيذ ذلك جبراً بإقصاء تلك التيارات وحرمانها من المشاركة؟

تنبئ وقائع التاريخ متقدمها ومتأخرها أن إقصاء الخصم السياسي عنوةً يفرز على الدوام واقعاً مأزوماً يهز ثقة الجمهور بالعملية الديمقراطية سواءً كانت عريقةً أو - ومن باب أولى- ناشئة، وفي حالة جماعة الأخوان المسلمين، فإن الجماعة كما يشهد تاريخها في مصر وسوريا وغزة وتونس والمغرب وغيرها؛ تستمد الحياة من محاولات إجهاضها، فتخرج بإرث من “المظلومية.. والتضحية..” الذي يجلب لها مزيداً من تأييد الجماهير المتعطشة لأي صوت معارض أو مخالف - حتى لو كان متسلقاً مدفوعاً بأجندة ذاتية وليس وطنية - يشتبك مع السلطة ويحاججها وينتقدها.

ثمة حاجة لوقفة تحليلية صادقة تطرح فيها أسئلة جادة بمكاشفة ومواجهة مع النفس: لماذا تخفق القوى والتيارات السياسية في مجاراة أي تيار ديني في السياسة والعمل العام؟ هل كانت المواقف الرسمية دائماً صريحةً إزاء سطوة تيارات الإسلام السياسي وتأثيرها في المشهد العام؟ ألم تتعرض لجنة تحديث منظومة الحياة السياسية نفسها لجبروت التيار الديني المتطرف حينما تم استبعاد أعضاء منها على خلفية آراء وكتابات وضعتهم في خانة الاتهام المصبوغ بصبغة دينية؟ ألم يترك الحبل على الغارب للجماعة من خلال ممثليها في مجلس النواب السابق بجعلنا أضحوكة أمام العالم وهم يلقون الخطب حول خطورة وفداحة إضافة كلمة “الأردنيات” إلى عنوان الفصل الخاص بالحقوق والواجبات في الدستور؟ ألم يشوّه نواب الجماعة ومؤيدوها قانون حقوق الطفل بالاستهانة وإهانة أسمى القيم وأجلها الخاصة باحترام الهوية والحق في الاختيار؟


سوف تخرج جماعة الإخوان المسلمين من هذه الأزمة متعافيةً قويةً كما خرجت من غيرها، لتزداد شعبيتها وتزداد قناعة مؤيديها بل ربما جانب من خصومها بأنها ضحية وصاحبة مظلومية. لذلك فإن ما نحتاجه حقاً هو ترك الفضاء متاحاً للجميع للعمل والمشاركة لكن ضمن قواعد دستورية تكفل التحول الفعلي إلى دولة مدنية قوامها حقوق الإنسان والديمقراطية وسيادة القانون، مع ضرورة الاستثمار في الأطفال بغرس قيم الحرية والديمقراطية واحترام التنوع والاختلاف، لينشأ جيل يشكل هيئة ناخبة واعية سياسياً محصنةً ضد حمى الفزعات وعدوى الشعبويات، ثم لا بد من يقظة حزبية تخلق كيانات سياسية لها برامج قادرة على استقطاب الجماهير وتكوين قاعدة تتيح لها المنافسة بقوة ضد أي تيارات تعتمد على الديماغوجية واستثارة العاطفة واللعب بأوراق “حماية الدين ضد المتآمرين.. والحرب الكونية ضدنا لهدم قيمنا وتغيير عاداتنا وتقاليدنا”.

الحل ليس في الحل، وإنما في إتاحة حلول وخيارات أمام الناخب يمكنه من خلالها اختيار الحزب الأفضل أو بالحد الأدنى إبعاد الحزب الأسوأ من خلال الأقل سوءً كما حدث في فرنسا في انتخابات عام 2002 كما أوردنا آنفا، لكن للأسف يبدو أن ساحتنا السياسية تفتقر حتى للأقل سوءً، لذلك بات الأسوأ هو أفضل المتاح.

إخترنا لك

أخبار ذات صلة

0 تعليق