انخفاض أسعار النفط واقتصادات المنطقة

مصدرك 0 تعليق ارسل طباعة تبليغ حذف

د. جاسم المناعي *

لاشك أن دول مجلس التعاون هي من أكثر الدول تأثراً بتقلبات أسواق النفط. ويرجع هذا الوضع كما نعلم إلى كون اقتصادات المنطقة وبالرغم من التنوع في مصادر دخلها والذي أنجزته خلال الفترة الماضية إلا إنها ما زالت تعتمد اعتماداً رئيسياً على الإيرادات النفطية في تمويل معظم إن لم يكن جميع قطاعاتها الاقتصادية والاجتماعية وغيرها من المرافق الأخرى.
لذلك نجد أن تقلبات أسواق النفط هبوطاً وصعوداً تنعكس مباشرة على أوضاع المنطقة. ففي حالة ارتفاع أسعار النفط نجد أن ذلك يعمل على انتعاش الأنشطة الاقتصادية المختلفة من مشاريع وأنشطة مصرفية وعقارية وحتى الاجتماعية إضافة إلى قطاع التجارة والبورصات والأسواق المالية، وعلى العكس من ذلك عندما تنخفض أسعار النفط حيث يخيم التباطؤ إن لم يكن الركود على مختلف الأنشطة لدول المنطقة.
ومثل هذه التقلبات في أسعار النفط تخضع في الأساس إلى ما يعرف في علم الاقتصاد بالدورات الاقتصادية، لكن تتدخل أيضاً في هذه التقلبات عوامل عديدة أخرى لا تقتصر فقط على الجوانب الاقتصادية، ولكن تتأثر بالقرارات والأوضاع السياسية أيضاً.
وبالنسبة إلى الوضع الحالي الذي تمر فيه أسواق النفط فإن الانخفاض الذي نشهده يرجع حسبما يبدو إلى مزيج من هذه العوامل الاقتصادية والسياسية معاً.
فمن ناحية فإن حرب الرسوم الجمركية التي أشعلها الرئيس الأمريكي أدت إلى حالة من التخوف بأن يؤدي ذلك إلى نوع من الركود على صعيد الاقتصاد العالمي، ومثل هذه الأجواء تنعكس في شكل انخفاض الطلب على النفط، الأمر الذي يؤدي إلى تراجع أسعاره.
كذلك فإن هذا الأمر تزامن مؤخراً مع قرار منظمة الدول المصدرة للبترول بزيادة الإنتاج حفاظاً على حصتها من أسواق النفط، وبالطبع فإن زيادة إنتاج النفط في الوقت الذي يسود العالم التخوف من الركود وانخفاض الطلب على النفط فإن من شأن ذلك أن يزيد المعروض من النفط ويضع مزيداً من الضغوط على أسعاره.
إضافة إلى كل هذه العوامل الاقتصادية هناك أيضاً عوامل سياسية تعمل في هذا الاتجاه؛ حيث إن المفاوضات السياسية الحالية بين أمريكا وإيران حول البرنامج النووي أعطت الشعور والانطباع بأن إيران وكنتيجة لهذه المفاوضات قد يتم رفع العقوبات عنها، ويسمح لها بتصدير النفط وفي مثل هذه الحالة، فإننا قد نشهد مزيداً من النفط المعروض في الأسواق في الوقت الذي يعاني فيه الطلب على النفط من ضعف بسبب احتمال اتجاه الاقتصاد العالمي إلى حالة من الركود.
لذلك يبدو أننا نمر حالياً بفترة اجتمعت فيها عوامل اقتصادية وسياسية تضغط في اتجاه انخفاض أسعار النفط، وبالطبع فإن هذه الظروف تؤثر في صناعة وإنتاج النفط من ناحية، كما تؤثر في الأوضاع الاقتصادية للدول المنتجة للنفط من ناحية أخرى.
على صعيد صناعة وإنتاج النفط فإن انخفاض أسعار النفط إلى ما دون مستويات معينة قد لا يجعل إنتاج النفط في بعض مناطق العالم مجدياً اقتصادياً وبالتالي قد تضطر مثل هذه المناطق إلى التوقف عن الإنتاج. فعلى سبيل المثال فإن بعض مناطق إنتاج النفط الصخري في أمريكا قد لا تتمكن من الاستمرار في الإنتاج إذا قل سعر النفط عن 60 دولاراً للبرميل. هذا الأمر لا ينطبق بالضرورة على دول نفطية أخرى كدول المنطقة حيث تكلفة الإنتاج فيها تقل كثيراً عن هذا المعدل.
وبالتالي فإنه حتى في حالة انخفاض سعر النفط عن 60 دولاراً، فإن دول المنطقة يمكنها الاستمرار في الإنتاج وبشكل مجدٍ اقتصادياً.
لكن دول المنطقة مع ذلك قد تواجه بنوع آخر من المشاكل حتى في حالة بقاء سعر النفط في حدود 60 دولاراً للبرميل، وأهم هذه المشاكل التي يمكن أن تواجهها دول المنطقة في هذه الحالة هو أن بعض هذه الدول، إن لم يكن جميعها، قد لا تتمكن من تحقيق توازن مرغوب في موازناتها؛ حيث إن هذه الدول قد توسعت خلال السنوات الماضية في الإنفاق، سواء على مستوى المصروفات الاستثمارية أو المصروفات الجارية، وكثيراً من هذا الإنفاق أصبح من الصعب خفضه أو المساس به حتى وإن انخفضت الإيرادات النفطية دون المستوى المطلوب.
وفي مثل هذه الحالات - وكما نعلم - تتجه الأنظار إما إلى خفض مخصصات المشاريع الأمر الذي يؤثر سلباً في مستوى النمو الاقتصادي، أو إلى الاقتراض مما يزيد في مديونية الدولة ويؤثر في درجة تقيمها الائتماني أو اللجوء إلى الأخذ بكلا الخيارين في آن واحد وبدرجات متباينة.
وتحاول الدول تجنب اللجوء إلى أيٍّ من هذين الخيارين قدر الإمكان؛ حيث من ناحية تحتاج هذه الدول إلى تحقيق معدلات نمو مرتفعة إلى حد ما، ومن ناحية أخرى وبدون شك تحاول تجنب الدخول في عجز موازناتها وتراكم الديون، وبالتالي تفادي انخفاض تقييماتها الائتمانية الذي يؤدي بدوره إلى ارتفاع تكاليف الاقتراض، وبالتالي زيادة الأعباء المالية.
لا أحد يعلم حتى الآن إلى أين تتجه أسعار النفط، وإن كانت التوقعات متشائمة على الأقل بالنسبة لهذا العام وربما العام المقبل أيضاً. لكن من المؤكد أن أسواق النفط ستظل خاضعة لأكثر من عامل بعضها اقتصادي والبعض الآخر ذو طبيعة سياسية. وأغلبية هذه العوامل تبدو خارجة عن سيطرة الدول المنتجة للنفط.
وكل ما يمكن عمله في مثل هذه الظروف هو التحوط لأسوأ الاحتمالات، وأخذ التدابير اللازمة للحفاظ على المكتسبات السابقة، وتجنب عدم تدهور الأوضاع إلى الأسوأ من خلال أنواع مختارة من الترشيد الذي لا يمسّ الإنفاق الاجتماعي كما لا يكون على حساب مشاريع التنمية.
وفي هذه الأثناء يظل الأمل قائماً على أن تكون الظروف الحالية لأسواق النفط مجرد ظروف مؤقتة تنفرج بعدها الأوضاع نحو مستوى أفضل لأسعار النفط يحقق لدول المنطقة استمرار الرخاء والازدهار.

* الرئيس السابق لصندوق النقد العربي

إخترنا لك

أخبار ذات صلة

0 تعليق