العواقب الاقتصادية لهيمنة النخب على الدول

الغد 0 تعليق ارسل طباعة تبليغ حذف

loading ad...

إليزابيث ديفيد-باريت* - (إندبندنت عربية) 2025/4/26

يشكل تحالف دونالد ترامب وإيلون ماسك نموذجاً معاصراً لظاهرة "الاستحواذ على الدولة"، حيث تستخدم النخب السياسية والمالية سلطتها لإقصاء المعارضين، وتقويض المؤسسات، وتوجيه الموارد العامة نحو مصالحها الخاصة. هذه الظاهرة، التي تتكرر في بلدان عديدة، تؤدي إلى فساد عميق، وتراجع اقتصادي، وهجرة الكفاءات، وتدمير البنى التحتية الحيوية.اضافة اعلان
***
منذ عودته إلى منصبه، قام الرئيس الأميركي دونالد ترامب، إلى جانب حليفه الملياردير الذي جمع ثروته من قطاع التكنولوجيا، إيلون ماسك، بتقويض أركان الحكومة. خلال ما يزيد قليلاً على ثلاثة أشهر، عمد ماسك إلى تطهير وكالات حكومية من الموظفين، واستبدل بالعاملين المفصولين أشخاصاً موالين، وألغى عقوداً حكومية حالية -بما في ذلك عقود تخص أعمالاً منجزة. وفي غضون ذلك، أقال ترامب مفتشين عامين وعزل رئيس مكتب الأخلاقيات الحكومية. ومعاً، يأخذ الرجلان موارد خصصها الكونغرس، ويسيئان استخدام سلطة الإنفاق العام لإعادة توجيه الأموال نحو نفسيهما وبعيداً عن خصومهما المفترضين. وطلبت إدارة ترامب مزيداً من أطباق الأقمار الاصطناعية من شركة "ستارلينك" التي يمتلكها ماسك، ووضعت شركات ماسك، وهي بالفعل من بين أبرز الشركات المتعاملة مع الحكومة، في مسار يمكنها من الحصول على عقود حكومية ستدر عليها مليارات أخرى من الدولارات. وفي الوقت نفسه، يوقف ترامب التمويل الحكومي المخصص للجامعات وشركات المحاماة التي لا تدعم أجندته.
في نظر معظم الأميركيين، سيبدو هذا النوع من الفساد غير مألوف. لم يحدث قط في التاريخ الأميركي الحديث أن تحالف رئيس من رجال الأعمال مع أغنى رجل في العالم للسيطرة على الحكومة الفيدرالية. ولكن على المستوى العالمي، فإن هذا يعد جزءاً من نمط مقلق. ففي الديمقراطيات المتعثرة حول العالم، غالباً ما تهيمن جماعات صغيرة من السياسيين ونخب رجال الأعمال، أو سياسيين لديهم مصالح تجارية -ما يعرف علمياً باسم "الأوليغارشية السياسية" Poligarchs، على الدولة لخدمة مصالحها الخاصة. وتشمل هذه التحالفات المشبوهة تغيير القوانين وإقالة البيروقراطيين وإسكات المنتقدين، ثم استنزاف موارد الدولة. ويستولي السياسيون على البنوك، ويعيدون كتابة اللوائح التنظيمية، ويتحكمون في عقود المشتريات. وفي المقابل، يقدم أصدقاؤهم في القطاع الخاص الرشاوى والتبرعات والتغطية الإعلامية الإيجابية.
ثمة اسم لهذه العملية: الاستحواذ على الدولة state capture. وقد حدثت في دول مثل بنغلاديش وهنغاريا وجنوب أفريقيا وسريلانكا وتركيا والكثير من البلدان الأخرى. وقد يكون من الصعب تحديد آثارها الاقتصادية الدقيقة، وكثيراً ما يستغرق تبلور هذه الآثار بالكامل أعواماً طويلة. لكنها آثار خطرة في نهاية المطاف. ففي الاقتصادات المستحوذ عليها، تُقطع صلة الوصل بين الكفاءة والنجاح؛ ويغادر البلاد العاملون المهرة الذين يفتقرون إلى العلاقات السياسية الصحيحة؛ وتنهار الشركات الكفؤة. وفي الوقت نفسه، تنمو الشركات ذات العلاقات القوية من دون ابتكار أو تقديم منتجات عالية الجودة (أو في بعض الأحيان من دون تقديم منتجات على الإطلاق). وتتدهور البنية التحتية للبلاد. وتنفد أموال المصارف بعد منحها قروضاً معدومة إلى الشركات المحظية. والنتائج: تراجع النمو، وتقلص الوظائف، وتزايد الفجوة بين الأغنياء والفقراء، وارتفاع التضخم.
للأسف، دائمًا ما تكون مقاومة ظاهرة الاستحواذ على الدولة وعكس مسارها عملية شاقة وصعبة. فهي تتطلب من المبلغين عن الفساد والصحفيين والنشطاء الاستمرار في رفع الصوت، من دون أي مقابل فوري ومع تعرضهم لأخطار شخصية جسيمة. ومع ذلك، فإن الإصرار يؤتي ثماره على المدى الطويل: تمكنت منظمات المجتمع المدني في بنغلاديش وجنوب أفريقيا وسريلانكا من إزاحة السياسيين الفاسدين. لكن النجاح غالباً ما يأتي بعد أن يكون المستحوذون قد دمروا الاقتصاد تماماً. وبحلول ذلك الوقت، يكون إصلاح ما جرى تدميره مهمة شبه مستحيلة.
فن السرقة
في الدول التي يتم فيها الاستحواذ على الدولة، لا ينجو أي قطاع من التدخل السياسي -لكن القطاع المصرفي يعد الأكثر عرضة للخطر. فالقطاع المالي، في نهاية المطاف، هو مصدر رأس المال وتيسير المعاملات الاقتصادية، وهذان الأمران أساسيان لعمليات النهب. في بنغلاديش، مثلاً، استخدمت رئيسة الوزراء السابقة الشيخة حسينة سيطرتها على المصارف لنهب ما لا يقل عن 17 مليار دولار من البلاد، وفق حكومة بنغلاديش المؤقتة. وفي ماليزيا، مول رئيس الوزراء السابق نجيب عبد الرزاق مجموعة متنوعة من البرامج التي تنطوي على محسوبيات من خلال تسليم سندات مدعومة من الحكومة إلى شركات حليفة له بواسطة "شركة ماليزيا الواحدة المحدودة للتنمية" (وان أم دي بي)، وهي مصرف تنموي حكومي. وقدمت هذه الشركات بدورها التمويل لحزب نجيب. ووصل نحو 700 مليون دولار إلى حساباته الشخصية مباشرة. وفي تركيا، أجبر الرئيس رجب طيب أردوغان البنوك المملوكة للدولة على تقديم قروض إضافية لرؤساء بلديات موالين له، ليستخدموا تلك الأموال في مشاريع إنفاق تخدم مصالحهم الانتخابية، وتساعد أردوغان على تعزيز سلطته.
يستخدم السياسيون وسائل متعددة للسيطرة على المؤسسات المالية في بلدانهم. في تركيا، لجأ أردوغان إلى صلاحياته التنفيذية لتعيين حلفائه في البنوك الحكومية. وفي ماليزيا، أنشأ نجيب عبد الرزاق شركة "ماليزيا الواحدة المحدودة للتنمية" من الصفر لتكون أشبه بمملكة مالية خاصة يديرها كما يشاء. وفي المجر، استخدم رئيس الوزراء فيكتور أوربان أسلوباً معقداً يشمل شراء وبيع أسهم مصرفية بأسعار مخفضة للسيطرة على أكبر مؤسسة مالية خاصة في البلاد. أما في بنغلاديش، ووفقاً لحاكم البنك المركزي أحسن منصور، فإن حسينة استعانت بجهاز الاستخبارات العسكرية في البلاد لاختطاف وتهديد مديري البنوك وأعضاء مجالس إداراتها لإجبارهم على بيع أسهمهم لأصدقائها من الأوليغارشيين.
التأثير الاقتصادي لهذا النوع من الاستحواذ كارثي بكل معنى الكلمة. فبصورة مباشرة، تستنزف مليارات الدولارات من الاقتصاد الوطني. وقد نهب نجيب، على سبيل المثال، نحو 4 مليارات دولار من خلال شركته، أي ما يعادل واحداً في المائة من الناتج المحلي الإجمالي الماليزي. ويعتقد بأن الشيخة حسينة نهبت حتى 30 مليار دولار -ما يعادل سبعة في المائة من الناتج المحلي الإجمالي لبنغلاديش.
لكن الأضرار الأعمق تحدث بطرق خفية. البنوك تملك قدراً محدوداً من الأموال لتقديم القروض. وعندما تمنح التمويل بناءً على العلاقات السياسية بدلاً من الكفاءة الاقتصادية، فإنها تحرم الشركات القادرة والمجدية من التمويل الذي تحتاج إليه للنمو. والأسوأ من ذلك أنها قد تستنزف أموالها بالكامل في خدمة الشركات المحظية سياسياً. وعندما يحدث ذلك، يخسر المواطنون العاديون ودائعهم البنكية، مما يؤدي إلى أزمة مالية شاملة.
في سريلانكا وتركيا، أدى هذا النمط إلى تضخم مفرط، فاستمرت الحكومات في طباعة النقود لتغطية العجز في الموازنة. (رفضت تركيا رفع أسعار الفائدة، على أمل استمرار النمو الاقتصادي على الرغم من التدهور).
بطبيعة الحال، لا يقتصر تلاعب المهيمنين على الدول على المصارف فقط، بل يذهبون إلى تغيير السياسات الاقتصادية واللوائح التنظيمية الحكومية بما يخدم مصالحهم. في سريلانكا، قامت الحكومات التي قادها أعضاء من عائلة راجاباكسا التي هيمنت على البلاد من العام 2005 إلى العام 2022 بتخفيض الرسوم الجمركية على واردات السكر، مما منح شركة تجارية مرتبطة بالعائلة إعفاءً ضريبياً ضخماً. واستفادت الشركة من القرار ببيع مخزونها من السكر المستورد بأسعار منخفضة من دون أن تقوم بتخفيض الأسعار للمستهلكين، محققة بذلك أرباحاً هائلة. في المقابل، تكبدت الدولة خسائر فادحة، إذ فقدت ما يعادل 1.3 في المائة من إيراداتها الضريبية للعام 2021.
وفي حالات أخرى، يعمد المهيمنون إلى استثناء شركاتهم المفضلة من القوانين واللوائح. فعلى سبيل المثال، كان الرئيس التونسي السابق، زين العابدين بن علي، وعائلته يمتلكون شركات تستورد السلع الاستهلاكية مثل السيارات والإلكترونيات، وكان من المفترض أن يدفعوا رسوماً جمركية باهظة. إلا أن حكومته سمحت لتلك الشركات المرتبطة بهم بتجنب دفع هذه الضرائب من دون عواقب، مما مكّن عائلته من تحقيق أرباح ضخمة. بينما اضطرت الشركات غير المرتبطة بالسلطة إلى دفع الضرائب بالكامل، مما وضعها في موقف غير متكافئ وزاد من حدة التفاوت الاقتصادي.
هذه الإعفاءات غير قانونية. لذلك يسارع المهيمنون على الدولة إلى تفكيك الهيئات الرقابية التي قد تلاحقهم أو تحاسبهم. ففي جنوب أفريقيا، تعاون الرئيس السابق، جاكوب زوما، الذي قاد البلاد بين العامين 2009 و2018، مع الإخوة أجاي وأتول وراجِش جوبتا -وهم رجال أعمال نافذون- لتقويض هيئة الإيرادات الجنوب أفريقية (SARS)، وهي جهة كان مشهوداً لها بالكفاءة في مكافحة التهرب الضريبي والجرائم المالية. وفي العام 2013، تلقى الإخوة جوبتا معلومة بأنهم قيد التدقيق. ولكن في العام التالي، عين زوما مفوضاً موالياً له قام بتطهير إدارة الهيئة، ثم استعان بشركات استشارية لإعادة هيكلتها بطريقة دمرت قدرتها على التحقيق. وفي الوقت نفسه، استخدم الإخوة جوبتا صحيفتهم ومحطتهم التلفزيونية لشن حملة تشويه ضد الهيئة بهدف تقويض مصداقيتها.
وبالنسبة لزوما والأشقاء جوبتا، نجحت هذه الجهود، حيث تخلت وكالة الإيرادات الجنوب أفريقية المتعثرة عن تحقيقها في شركات الأشقاء جوبتا. لكن تدمير المؤسسة جاء بنتائج وخيمة على جنوب أفريقيا. منذ إعادة الهيكلة، قللت الوكالة بصورة كبيرة من أهدافها على صعيد تحصيل الإيرادات، مما أفضى إلى تخفيضات في الإنفاق على مشاريع في مجال البنية التحتية كانت الحاجة إليها شديدة.
السرقة المباشرة
ليس كل عمل من أعمال الهيمنة على الدولة عملاً معقداً. ففي بعض الأحيان، يكتفي الأوليغارشيون بسرقة الدولة مباشرة. على سبيل المثال، غير أردوغان قانون المشتريات العامة في تركيا مرات عدة، حتى أصبح بإمكانه التحكم شخصياً في نتائج المناقصات. ومنذ ذلك الحين، استخدم هذه السلطة لتوجيه عقود الدولة إلى خمسة تكتلات اقتصادية ضخمة تعد من بين أكثر الشركات التي تفوز بالعقود الحكومية في العالم. وفي المقابل، وفرت له هذه الشركات التي يملك الكثير منها وسائل إعلام، تغطية إعلامية إيجابية، وتبرعت لجمعيات خيرية تابعة لحزبه، بل أجبرت موظفيها على التصويت له.
وتقدم جنوب أفريقيا مثالاً آخر على ذلك. في عهد زوما، فاز الإخوة جوبتا بعقود تلو الأخرى، واستغلوا علاقاتهم لانتزاع رشاوى من شركات أخرى. وقد بدأوا بشركة كمبيوتر صغيرة، لكنهم سرعان ما امتلكوا إمبراطورية اقتصادية بمليارات الدولارات تنشط في قطاعات متنوعة مثل الألبان والاستشارات والفحم. ومارسوا تأثيراً هائلاً في حكومة زوما، حتى أنهم كانوا يختارون من يتولى مناصب وزارية حساسة، ومن يترأس الشركات الحكومية الكبرى. وفي المقابل، حولوا أموالاً إلى حسابات زوما وضخوا دعاية إعلامية لمصلحته.
يفاقم فساد كهذا تباطؤ معدلات النمو. في اقتصاد صحي، تتنافس الشركات على الجودة والسعر. ولكن في الاقتصادات الخاضعة للهيمنة، تنجح الشركات من خلال إقامة العلاقات السياسية المناسبة، مما يمنحها قليلاً من الحافز للابتكار أو الفاعلية. وتتكبد بعض أفضل الشركات خسائر لمجرد أنها تفتقر إلى العلاقات المناسبة. ولا يكلف رواد الأعمال المحتملون أنفسهم عناء تأسيس شركات. ويغادر الكثير من العاملين المهرة البلاد بحثاً عن أسواق تكافأ فيها المواهب بدلاً من القرب من السلطة. وفي الوقت نفسه، تزيد الشركات المحظية الأسعار أكثر مما ينبغي وتقلل العروض إلى أقل مما يجب. وينخفض الناتج الاقتصادي بدوره. وتزداد نوعية الحياة سوءاً. وفي بعض الأحيان، يفقد أشخاص حياتهم. فوفق دراسات متعددة، كان الزلزال الذي ضرب تركيا في العام 2023 ليتسبب بأضرار أقل لو كانت البنية التحتية للبلاد أفضل نوعية. لكن الأمر لم يكن كذلك لأن أردوغان كان يحمي شركات البناء التي بنتها من المنافسة والرقابة.
وتعد قضية شركة الكهرباء الحكومية "إسكوم" في جنوب أفريقيا مثالاً آخر صارخاً على الأضرار الناتجة عن الفساد.
في السابق، كانت "إسكوم" رائدة عالمياً؛ وقد اختيرت كأفضل شركة طاقة في العالم في العام 2001 من قبل "جوائز فايننشال تايمز العالمية للطاقة". وكانت عليها في تسعينيات القرن الماضي ومطلع الألفية الجديدة مواجهة مهمة كبيرة تمثلت في الحفاظ على معاييرها مع توفير الكهرباء لأسر جنوب أفريقيا التي لم تتمكن من الوصول إليها في ظل الفصل العنصري، والمقدرة بنصف أسر البلاد كلها. لكن نفوذ الأشقاء جوبتا أدى إلى تفاقم التحديات التي كانت ماثلة أمام "إسكوم" إلى حد بعيد.
وفي عهد جاكوب زوما، أجبرت "إسكوم" على شراء الفحم من شركات جوبتا بدلاً من شرائه من السوق المفتوحة، مما منحهم حرية فرض أسعار باهظة وتسليم فحم منخفض الجودة. وحقق الإخوة أرباحاً ضخمة، لكن "إسكوم" فقدت قدرتها على تزويد المواطنين بالكهرباء، مما أدى إلى انقطاعات يومية يعاني منها السكان حتى اليوم. ووفقاً لتقديرات وزارة المالية الجنوب أفريقية، فإن الإخفاقات في "إسكوم" وشركة النقل الحكومية "ترانسنت" قلصت الاقتصاد الجنوب أفريقي بنحو 30 في المائة خلال الأعوام الخمسة عشر الماضية.
مع مرور الوقت، تؤدي هذه المشكلات الاقتصادية إلى نتائج كارثية حتى على مختطفي الدولة أنفسهم. هناك حد لما يمكن سرقته قبل أن يجف مصدر المال. لكن "الأوليغارشية السياسية" نادراً ما يغيرون مسارهم. إنهم يواصلون نهب الاقتصاد حتى ينهار. في سريلانكا، على سبيل المثال، أدى فساد عائلة راجاباكسا إلى ارتفاع نسبة الدين إلى الناتج المحلي الإجمالي لتبلغ 114 في المائة العام 2022، مما فجر أزمة في ميزان المدفوعات. ونتيجة لذلك، عانت البلاد نقصاً مزمناً في الوقود والغذاء والأدوية، وقفز التضخم إلى 49 في المائة.
لكن الرئيس غوتابايا راجاباكسا وشقيقه الذي شغل منصب رئيس الوزراء، أصرا على الإبقاء على الإعفاءات الضريبية الممنوحة للمقربين منهما من رجال الأعمال. وفي خضم أزمة خانقة، فرضا قيوداً على شراء العملات الأجنبية، لكنهما في الوقت ذاته منحا أصدقاءهما وأصحاب النفوذ إمكانية الوصول إلى الدولار الأميركي، مما ضاعف من اختلال العدالة الاقتصادية. وكان بإمكانهما اتخاذ خيار عقلاني: إعلان التخلف عن سداد الديون وطلب حزمة إنقاذ من صندوق النقد الدولي، وهي خطوة كان من الممكن أن تسمح للمواطنين العاديين بإعادة شراء السلع الأساسية مثل الغذاء والدواء والوقود.
لكنهما اختارا بدلاً من ذلك الاستمرار في دفع الديون الخارجية (السندات السيادية) التي كانت مملوكة لشركات تابعة لهما. (وتخلفت سريلانكا في نهاية المطاف عن تسديد سنداتها على أي حال)، ولكن بعد أن تضرر المواطنون العاديون بشدة من التضخم والانهيار المالي.
لا حل سهلاً
ما لم يكونوا يحكمون أنظمة استبدادية كاملة، يتعين على أعضاء الأوليغارشية السياسية مواجهة المعارضة. حتى في الديمقراطيات المعطلة، هناك مؤسسات تحاول محاسبة السلطة التنفيذية. المحاكم تقوم بإلغاء القرارات غير القانونية. وهيئات التدقيق تكشف عن عمليات الاحتيال. والصحفيون يكشفون عن الصفقات الفاسدة. والأشخاص الشجعان يغامرون بكل شيء للإبلاغ عن المخالفات، وأحياناً يخرجون إلى الشوارع للاحتجاج. لكن القادة الذين يستولون على السلطة يواصلون أفعالهم بغض النظر عن ذلك، وينجحون عادة في تجنب المساءلة. فالاستحواذ على الدولة يعني فعلياً أن أقوى الأشخاص في البلد هم أولئك الذين استولوا عليها. إنهم يحتفظون بأكبر قدر من المال، وهم المسيطرون على الجهاز السياسي.
لكن المعارضة تنجح في بعض الأحيان. فقد أطيح بحسينة وراجاباكسا وزوما في نهاية المطاف. ولكن في كثير من الأحيان، لا يتم إبعاد هؤلاء المستولين من السلطة إلا بعد أن يصل الاقتصاد إلى حالة من الفوضى العميقة. في سريلانكا، استغرق الأمر أشهراً من النقص الحاد في السلع وارتفاع الأسعار قبل أن يتمكن المحتجون من الإطاحة بعائلة راجاباكسا. وفي بنغلاديش، أسقط المتظاهرون حسينة بعد أن حاولت توجيه مزيد من الوظائف الحكومية إلى حلفائها. ولكن في تلك اللحظة، كان الاقتصاد قد دمر بالفعل. واليوم، يواجه النظام المصرفي في بنغلاديش الانهيار، والناس غير قادرين على سحب ودائعهم، وبالتالي لا يمكنهم شراء السلع الأساسية.
من الصعب على الدول التعافي من ضرر واسع كهذا. ويعاني القادة الجدد مع إصلاح الفجوات الاقتصادية الهائلة التي خلفتها الأصول المسروقة لأن اقتصاداتهم المدمرة ليست لديها قواعد ضريبية واضحة. ويكون النظام المالي في حالة يرثى لها، لذلك يعانون مع الاقتراض أيضاً. ويمكنهم محاولة ملاحقة الأوليغارشيين السياسيين الذين يمتلكون كثيراً من هذه الثروة المسروقة. ولكن في كثير من الأحيان، تكون هذه النخب قد أصبحت تعيش في الخارج. ويكون أولئك الذين بقوا في بلدانهم قد سربوا أصولهم إلى الخارج، مما يجعل من الصعب على الدولة تحصيل ما يدينون به.
كما تكون عملية إعادة بناء مؤسسات الدولة أكثر صعوبة. قد يرغب القادة الجدد في تطهير المنظومة البيروقراطية، لكن عمليات الفصل الجماعي ستبدو انتقامية، وستُفرغ المؤسسات من الموظفين اللازمين. ونتيجة لهذا، يتعين على الزعماء أن يتبنوا نهجاً بطيئاً وثابتاً في إعادة الإعمار، مما يعني الاستمرار لبعض الوقت في دفع رواتب المسؤولين الفاسدين. ولتجنب مزيد من الخراب على نحو مماثل، تجد الحكومات الجديدة أن عليها الاستمرار في دفع مستحقات الشركات الفاسدة. تحتاج المجتمعات إلى موارد معينة -الغذاء والماء والطاقة والعقار- وبعد أعوام من وقوعها تحت الهيمنة، يستغرق العثور على موردين غير الموردين المتعاقدين وقتاً. وقبل دخول شركات جديدة إلى السوق، يجب أن تقتنع هذه الشركات بأن المناقصات لم تعد مزورة، وأن من المفيد بالتالي لها تقديم عروض للحصول على عقود.
أفضل طريقة لمعالجة الهيمنة على الدولة، إذن، هي تجنبها منذ البداية. ولكن لسوء حظ الأميركيين، يحدث استحواذ ترامب وماسك على السلطة على قدم وساق. كانت قد مرت أعوام قبل أن يمنح زوما الأشقاء جوبتا وصولاً غير مقيد إلى إدارته؛ وفي المقابل، أعطى ترامب ماسك وصولاً إلى إدارته في يومه الأول في منصبه. وخسرت المنظومة البيروقراطية الأميركية بالفعل آلاف العاملين، ويواجه آلاف غيرهم خطر الصرف من الخدمة. وباتت وكالات تنظيمية مهمة، بما في ذلك لجنة الاتصالات الفيدرالية ولجنة التجارة الفيدرالية، تحت قيادة موالين لترامب. لم تدمر إدارة الإيرادات الداخلية بعد كما حصل مع "وكالة الإيرادات الجنوب أفريقية"، لكن ترامب وماسك أوضحا أنهما يستهدفانها. وكذلك الأمر بالنسبة لمجلس الاحتياطي الفيدرالي. وملأ ترامب مكتب التحقيقات الفيدرالي (أف بي آي) ووزارة العدل بأشخاص مفضلين لديه يأمل في أن يلاحقوا أعداءه.
إذا نجح ترامب وماسك في الهيمنة على الاقتصاد الأميركي، فإنهما لن يشوها الأسواق الأميركية فقط، بل سيلحقان أيضاً أضراراً بالاقتصادات في أنحاء العالم كله. ونظراً إلى أن الولايات المتحدة هي أكبر اقتصاد على كوكب الأرض ومحوره المالي الرئيسي، يتردد صدى ما يحدث في الولايات المتحدة في كل مكان. تقليدياً، كانت واشنطن أقوى قوة في العالم على صعيد الحكم السليم، والضغط على النخب الفاسدة ومعاقبتها في بلدان أخرى. لكن ترامب يعمل على تعليق تطبيق قانون الممارسات الأجنبية الفاسدة والتراجع عن متطلبات شفافية الشركات. بعبارة أخرى، لا تتخلى الولايات المتحدة عن دورها التاريخي كشرطي يراقب سلامة الحكم في العالم فقط. إنها تغير أيضاً موقعها لتصبح زعيمة لغوغاء. إنها تتحول إلى قدوة من نوع مختلف تماماً.

*إليزابيث ديفيد-باريت: أستاذة الحوكمة والنزاهة ومديرة مركز دراسة الفساد في جامعة ساسكس بالمملكة المتحدة. تتخصص في تحليل أنظمة الحكم وتحديات مكافحة الفساد، وتركز أبحاثها على التفاعل بين الفساد والسياسة، لا سيما في السياقات الانتقالية والدول النامية. تمتد خبرتها لتشمل السياسات الدولية المتعلقة بالشفافية والمساءلة، وتأثير الفساد على مؤسسات الدولة واستقرارها. نشرت لها العديد من الدراسات في مجلات أكاديمية مرموقة، وهي تعد من الأصوات البارزة في الحقل الأكاديمي المتعلق بالإصلاح المؤسسي وبناء الثقة في القطاعين العام والخاص. كما أنها مستشارة لعدد من المنظمات الدولية، من بينها البنك الدولي ومنظمة الشفافية الدولية. المقال مترجم عن مجلة "فورين أفيرز"، حيث نشر 4 نيسان (أبريل) 2025.

إخترنا لك

أخبار ذات صلة

0 تعليق