النظام الدولي الاقتصادي الصيني: كيف تبنى العالم قواعد بكين الاقتصادية

الغد 0 تعليق ارسل طباعة تبليغ حذف

loading ad...

مايكل بي جي فرومان – (إندبندنت عربية) 26/4/2025

بينما سعت أميركا لعقود إلى ترسيخ نظام اقتصادي متحرر قائم على العولمة والانفتاح، أعادت الصين تشكيل النظام الدولي عبر تعزيز سياسات الحماية والدعم الحكومي. ومع تصاعد النفوذ الصيني، وجدت الولايات المتحدة نفسها تتبنى نهجاً مشابهاً لما كانت تنتقده، عبر فرض القيود التجارية، ودعم الصناعات المحلية، وإعادة النظر في سياسات الاستثمار والانفتاح الاقتصادي.اضافة اعلان
***
في أوائل شباط (فبراير) الماضي، وأثناء تحليقه على متن الطائرة الرئاسية فوق المسطح المائي الذي كان قد أعاد تسميته قبل فترة وجيزة ليصبح "خليج أميركا"، أعلن الرئيس دونالد ترامب أنه سيفرض رسوماً جمركية على واردات الصلب والألمنيوم كلها. وبعد أسبوعين من ذلك، أصدر مذكرة رئاسية تتضمن توجيهات جديدة لعمليات التدقيق في استثمارات الشركات الصينية في الولايات المتحدة واستثمارات الشركات الأميركية في الصين. وعلى مدار الأسابيع الأولى من إدارته، شدد ترامب على أهمية إعادة التصنيع إلى البلاد، داعياً الشركات إلى صنع منتجاتها داخل الولايات المتحدة لتفادي الرسوم الجمركية.
في ضوء الرسوم الجمركية والحمائية، والقيود على الاستثمار، والإجراءات المصممة لتحفيز الإنتاج المحلي، باتت سياسات واشنطن الاقتصادية تشبه بشكل لافت السياسات التي اتبعتها بكين خلال العقد الماضي من الزمن أو أكثر –سياسات صينية بسمات أميركية.
كانت الاستراتيجية الأميركية في التعامل مع الصين تستند إلى فرضية مفادها أنه إذا تمكنت الولايات المتحدة من دمج الصين في النظام العالمي المستند إلى القواعد، فإن ذلك كفيل بجعل الصين شبيهة بالولايات المتحدة. وعلى مدى عقود من الزمن، ظلت واشنطن تعظ بكين حول ضرورة الابتعاد عن الحمائية، وإزالة الحواجز أمام الاستثمارات الأجنبية، وضبط استخدام الإعانات والسياسات الصناعية –لكن النجاح كان محدوداً. ومع ذلك استمر الأمل في أن يؤدي الدمج إلى تقارب.
وقد تحقق قدر لا بأس به من التقارب بالفعل، ولكن ليس على النحو الذي توقعه واضعو السياسات الأميركيون. فبدلاً من أن تصبح الصين شبيهة بالولايات المتحدة، بدأت الولايات المتحدة تتصرف على نحو شبيه بالصين. قد تكون واشنطن هي الطرف الذي صاغ النظام الاقتصادي الليبرالي المستند إلى القواعد، لكن الصين هي مَن حدد ملامح مرحلته التالية: الحمائية، والإعانات، والقيود على الاستثمار الأجنبي، والسياسات الصناعية. وبالتالي، فإن القول بضرورة استعادة الولايات المتحدة لقيادتها من أجل الحفاظ على النظام القائم على القواعد يغفل الحقيقة الأهم: لقد أصبح الاقتصاد العالمي محكوماً برأسمالية الدولة القومية الصينية، وواشنطن تعيش بالفعل في عالم صنعته بكين.
الانفتاح
في تسعينيات القرن العشرين وبداية الألفية الجديدة، كانت المؤشرات كلها تدل على أن الصين تمضي قدماً في مسيرة لا رجعة فيها نحو التحرر الاقتصادي. وقد بُني هذا المسار على إصلاحات بدأها الزعيم الصيني دنغ شياوبنغ في أواخر السبعينيات، حين فتحت الصين أبوابها أمام الاستثمارات الأجنبية. ثم واصل الرئيس جيانغ زيمين ورئيس الوزراء تشو رونغجي هذه المسيرة اللافتة، وإن كانت مؤلمة، من الإصلاحات الاقتصادية. وقد أعادا هيكلة المؤسسات المملوكة للدولة، وسرحا عشرات الملايين من عامليها، ووسعا نطاق النشاط في القطاع الخاص، وسمحا للشركات بتعديل الأسعار وفق آليات السوق، ومهدا الطريق أمام انضمام الصين إلى منظمة التجارة العالمية.
كان جيانغ وتشو يؤكدان مراراً أن الصين ستواصل انفتاحها لا محالة. وذهب كثر في الغرب إلى حد الاعتقاد بأن هذا التحرر الاقتصادي سيقود إلى تحرر سياسي، حيث يتحول المجتمع الرأسمالي بمرور الوقت إلى مجتمع أكثر ديمقراطية. لكن تلك الفرضية ثبت خطؤها. لم يفكر القادة الصينيون بجدية في الإصلاح السياسي، إلا أن النمو الاقتصادي الصيني كان لافتاً على أي حال. فقد ارتفع ناتج الصين المحلي الإجمالي من 347.77 مليار دولار في العام 1989 إلى 1.66 تريليون دولار في العام 2003، ثم إلى 17.79 تريليون دولار في العام 2023، بحسب البنك الدولي. وكان الأمل كبيراً بأن يؤدي دمج الصين في نظام التجارة المستند إلى القواعد إلى عالم أكثر سلماً وازدهاراً. وأسهمت العولمة فعلاً في انتشال أكثر من مليار إنسان من الفقر، وهذا إنجاز مذهل، لكن مزايا هذا التقدم لم توزع بالتساوي، ودفع بعض العاملين والمجتمعات المحلية في البلدان الصناعية الثمن مقابل صعود الآخرين.
ثم دخل الرئيس هو جينتاو المشهد، وتلاه الرئيس شي جينبينغ. وتبين أن مسار الصين الاقتصادي لم يكن خطياً ولا حتمياً كما ظن كثيرون. في عهد هو، عمقت الدولة تدخلها في الاقتصاد من خلال السعي إلى إنشاء "مؤسسات وطنية رائدة" في قطاعات استراتيجية عبر تقديم إعانات ضخمة، أي أن الحكومة وسعت دورها بدلاً من المضي قدماً في تحرير السوق. وفي الوقت نفسه أسهم تدفق الواردات الصينية الرخيصة في تسريع وتيرة انحسار التصنيع في الولايات المتحدة –بشكل لم يتوقعه أحد تقريباً. وأصبحت الصين مصنع العالم، وتجاوزت عمالقة التصنيع مثل اليابان وألمانيا خلال العقد الأول من هذا القرن. وفي العام 2004، شكلت الصين تسعة في المئة من القيمة المضافة الخاصة بالتصنيع في العالم، وقفزت حصتها إلى 29 في المئة في العام 2023، وفق البنك الدولي.
كيف فازت الصين؟
واصلت واشنطن الضغط على بكين طوال تلك الفترة لحضها على تنفيذ أجندتها الإصلاحية، داعية إياها إلى فتح أسواقها، وعدم فرض رسوم جمركية مرتفعة أو حواجز أخرى على المنتجات الأميركية. كذلك طالبت بالسماح للشركات الأميركية بالاستثمار في الصين من دون أن تمنع من دخول قطاعات معينة أو تجبر على إبرام شراكات مع شركات محلية وتحويل التكنولوجيا الأميركية إليها. وطالبت كذلك بوقف الإعانات الحكومية المخصصة لإنتاج وتصدير المنتجات، والتي كانت تشوه السوق العالمية، لكن هذه القائمة الطويلة من المطالب لم تلق آذاناً صاغية.
في العام 2009، قادت إدارة أوباما جهوداً لاستكمال "جولة الدوحة" –وهي مفاوضات تجارية متعددة الأطراف بدأت تحت مظلة منظمة التجارة العالمية في العام 2001. وتم اتخاذ هذا القرار لأسباب من أهمها أن الاتفاق الذي كان يُتوقع أن يفضي إليه تلك الجولة كان سيمنح الصين وضع "البلد النامي" بشكل دائم من ضمن قواعد المنظمة. وكان ذلك سيتيح لها التمتع بـ"معاملة خاصة وتفضيلية"، أي إنها لن تكون ملزمة بتحمل المستوى نفسه من الالتزامات والانضباط –في ما يتعلق بالنفاذ إلى الأسواق، وحماية حقوق الملكية الفكرية، وغيرهما– الذي تتحمله الولايات المتحدة والبلدان الصناعية الأخرى. وتعرضت واشنطن حينها إلى انتقادات شبه جماعية بسبب تشجيعها على إعادة النظر في أسس تلك المفاوضات، ولكن حتى في ذلك الوقت كان واضحاً أن استمرار السياسات الاقتصادية الصينية من دون معالجة سيؤدي إلى اضطراب كبير في نظام التجارة العالمي.
ثمة دوافع مماثلة جعلت إدارة أوباما تسعى إلى إبرام "اتفاق الشراكة عبر المحيط الهادئ" Trans-Pacific Partnership، وهو اتفاق تجاري عالي المعايير تفاوض عليه 12 بلداً من البلدان التي تطل على المحيط الهادئ. وصممت هذه المبادرة لكي توفر للبلدان الآسيوية بديلاً جذاباً عن النموذج الذي تطرحه الصين. وضم الاتفاق مجموعة متنوعة من البلدان المستعدة لاعتماد معايير صارمة لحماية العاملين والبيئة، والحد من استخدام الإعانات، وفرض الانضباط على الشركات المملوكة للدول، ومعالجة مخاوف محددة تتعلق بالصين، مثل حماية حقوق الملكية الفكرية. ولكن بحلول الوقت الذي انتهت فيه المفاوضات على الاتفاق في العام 2015، كانت الاتفاقات التجارية –حتى تلك المصممة لموازنة نفوذ الصين– قد أصبحت ضارة سياسياً في الساحة الداخلية الأميركية، وانتهى الأمر بانسحاب الولايات المتحدة من الاتفاق.
بين العامين 2009 و2017، توليت أولاً منصب نائب مستشار الأمن القومي للشؤون الاقتصادية الدولية، ثم منصب الممثل التجاري للولايات المتحدة. وخلال تلك الفترة، حذرت نظرائي الصينيين باستمرار من أن البيئة الدولية المواتية التي سمحت بنجاح الصين لن تستمر ما لم تعدل بكين سياساتها الاقتصادية العدوانية، لكن الصين واصلت مسارها إلى حد بعيد، بل إنها ضاعفت التزامها بهذا النهج. وعندما تولى الرئيس شي جينبينغ السلطة في العام 2012، أنهى فعلياً حقبة "الإصلاح والانفتاح" التي كانت قد تعثرت في عهد هو جينتاو، ووضع الصين على مسار يهدف إلى الهيمنة على التكنولوجيات الحيوية. وقد ازداد الإنتاج إلى حد أدى إلى فائض في الطاقة الإنتاجية، والتزم بنمو تقوده الصادرات. واليوم، كما يشير الاقتصادي براد سيتسر، ينمو حجم صادرات الصين بمعدل يفوق ثلاثة أضعاف معدل نمو التجارة العالمية. وفي قطاع السيارات، تسير الصين نحو امتلاك طاقة إنتاجية تكفي لتلبية ثلثي الطلب العالمي. ويتجاوز نفوذ الصين قطاع السيارات، إذ تنتج أيضاً أكثر من نصف المعروض العالمي من الصلب والألمنيوم والسفن.
في نهاية المطاف، بدأت الشركات الأميركية نفسها، التي كانت تاريخياً ركيزة الاستقرار في العلاقة الثنائية، تتذمر من الصين بعدما سرقت ملكيتها الفكرية أو أجبرت على ترخيص استخدامها، وتعرضت إلى الإقصاء من السوق الصينية أو تأخير كبير في النفاذ إليها، بينما كانت الإعانات والتفضيلات الممنوحة للشركات المحلية الصينية تقلص من فرصها. ومع غياب مبدأ المعاملة بالمثل، بدأت العلاقة بالتدهور. وقد تشدد السياسيون في كلا الحزبين الأميركيين، ومعهم الرأي العام الأميركي، في مواقفهم تجاه الصين. كما بدأت أوروبا والاقتصادات الكبرى الصاعدة في معاداة سياسات بكين. باختصار، اختفت البيئة الدولية المواتية.
بعد فشل واشنطن في إقناع بكين بتغيير سياساتها الاقتصادية العدوانية أو فشلها في المضي قدماً نحو إنشاء تكتل تجاري بديل لموازنة نفوذ الصين، لم يبق أمامها سوى خيار واحد: جعل الولايات المتحدة أشبه بالصين. بعد عقود من انتقاد الصين لفرضها رسوماً جمركية مرتفعة وقيوداً أخرى على الصادرات الأميركية، بدأت الولايات المتحدة في إقامة الحواجز نفسها. ووفق حسابات الاقتصادي تشاد باون، فرض ترامب رسوماً جمركية رفعت متوسط معدل التعرفة على الواردات من الصين من ثلاثة في المائة إلى 19 في المئة خلال ولايته الأولى. وشملت هذه الرسوم ثلثي الواردات الصينية كلها. وحافظ الرئيس جو بايدن على هذه الرسوم، بل أضاف رسوماً على منتجات صينية أخرى، مثل معدات الوقاية الشخصية، والسيارات الكهربائية، والبطاريات، والصلب، مما زاد قليلاً من متوسط الرسوم الجمركية على الواردات الصينية. وبعد مرور أقل من شهرين على بدء ولايته الثانية، فرض ترامب رسوماً إضافية بنسبة 20 في المائة على واردات الولايات المتحدة من الصين كلها –في إجراء يفوق في حجمه مجموع الرسوم التي فرضها في ولايته الأولى وتلك التي فرضها بايدن.
وبالمثل، غيرت الولايات المتحدة نهجها من معارضة القيود على الاستثمارات الثنائية إلى فرض قيود صارمة على الاستثمارات الصينية في الولايات المتحدة، وعلى الاستثمارات الأميركية في قطاعات حساسة داخل الصين. وتراجعت الاستثمارات الصينية السنوية في الولايات المتحدة من 46 مليار دولار في العام 2016 إلى أقل من 5 مليارات دولار في العام 2022، بحسب "مجموعة روديوم". وبعد أن كانت واشنطن تدعو بكين إلى التخلي عن سياسات الإعانات والدعم الصناعي، تبنت هذه السياسات هي نفسها خلال عهد إدارة بايدن، مع تخصيص ما لا يقل عن 1.6 تريليون دولار بموجب "قانون استثمار البنية التحتية وفرص العمل" للعام 2021، و"قانون الرقائق والعلوم" للعام 2022، و"قانون خفض التضخم" للعام 2022.
إذا عجزت عن هزيمته، كن جزءا منه
للمضي أبعد في تبني النهج الصيني، يمكن للولايات المتحدة اعتماد أداة أساسية من أدوات بكين: اشتراط أن تبرم الشركات الصينية التي تستثمر في الخارج شراكات مع شركات محلية، وتنقل التكنولوجيا إليها. وقد تعزز هذه الاستراتيجية من القدرة التنافسية الصناعية الأميركية، وكذلك من قدرة بلدان أخرى متضررة من فائض الطاقة الإنتاجية الصينية، بما فيها بلدان أوروبية كثيرة.
فلنأخذ قطاع الطاقة النظيفة كمثال لا لبس فيه. تبتكر شركات السيارات الكهربائية الصينية بسرعة أكبر وتنتج سيارات عالية الجودة بكلفة أقل بكثير مقارنة بالشركات الأميركية النظيرة. وبعض السيارات الصينية أرخص بنسبة تصل إلى 50 في المائة من السيارات الأميركية المماثلة، وتمثل الصين نحو 60 في المائة من مبيعات السيارات الكهربائية على مستوى العالم. كذلك يتمتع مصنعو البطاريات والألواح الشمسية ومعدات الطاقة النظيفة في الصين بمزايا مشابهة.
أما في الولايات المتحدة، فليس لدى الصين أي حصة تقريباً في سوق السيارات الكهربائية. ومن المرجح أن تمنع الرسوم الجمركية والقيود الحالية أي تدفق مستقبلي لهذه الواردات. وفي الوقت ذاته، تواجه شركات تصنيع السيارات الأوروبية، ولا سيما الألمانية، ضغوطاً ناجمة عن سياسات تفضيل الإنتاج المحلي وعن تنافسية الشركات المحلية في السوق الصينية، وهي سوق كانت تعتمد عليها شركات تصنيع السيارات الأوروبية في تحقيق النمو. وأخيراً، بدأت الصين تحقق تقدماً في السوق الأوروبية أيضاً. وقد ارتفعت حصة السيارات الكهربائية الصينية في السوق الأوروبية من صفر تقريباً في كانون الثاني (يناير) 2019 إلى أكثر من 11 في المائة في حزيران (يونيو) 2024.
وعلى خطى الولايات المتحدة، فرضت أوروبا رسوماً جمركية على السيارات الكهربائية صينية الصنع في أواخر العام الماضي. وأدى ذلك إلى تباطؤ نمو حصة الصين في السوق، لكن مجرد كبح نمو الواردات قد لا يكون كافياً لحل مشكلات قطاع السيارات الأوروبي. للحفاظ على الوظائف والطاقة التصنيعية، يبدو أن أوروبا منفتحة على استقبال استثمارات صينية في إنتاج السيارات الكهربائية داخل القارة (في المقابل، ليس واضحاً ما إذا كان ترامب سيرحب باستثمارات كهذه، أو سيواصل حظر السيارات الكهربائية الصينية في السوق الأميركية بدعوى قدرتها على متابعة تحركات المواطنين أو تعطيل حركة المرور). وإذا أرادت أوروبا أن تتجنب أن تصبح مجرد موقع لتجميع السيارات الكهربائية الصينية، فإنها قد تضطر إلى استعارة أسلوب تكتيكي من أساليب بكين، وتلزم الشركات الصينية بالدخول في شراكات مع شركات أوروبية، ونقل التكنولوجيا والخبرة إليها.
كيف يمكن التفوق
على الصين بأسلوبها؟
ليس واضحاً حتى اللحظة ما إذا كانت لدى الولايات المتحدة القدرة للتفوق على الصين باستخدام سياسات الأخيرة نفسها. تبدو بكين قادرة إلى ما لا نهاية تقريباً على تعبئة رؤوس الأموال والتلاعب بالسياسات التجارية والاستثمارية لخدمة أهدافها بعيدة الأجل. أما قانون خفض التضخم الأميركي وقانون الرقائق والعلوم، فقد يكونان استثناءين تاريخيين أكثر منهما بداية لاتجاه العام نحو سياسات صناعية أكثر طموحاً، نظراً إلى تردد العديد من المشرعين الجمهوريين بشأن تمريرهما. بل إن ترامب، على الرغم من سعيه إلى تعزيز صناعة أشباه الموصلات الأميركية، دعا إلى إلغاء قانون الرقائق والعلوم الذي يقدم إعانات إلى مصنعي أشباه الموصلات. ومن المرجح أن تواجه الإعانات التي ينص عليها قانون خفض التضخم تحديات سياسية أيضاً.
ثمة جدال نشط يدور حالياً حول ما إذا كانت إدارة بايدن قد جنت عوائد كافية في مقابل إنفاقها على السياسات الصناعية، باستثناء بعض القطاعات الأساسية. وقد ازداد الاستثمار الأميركي في قطاع التصنيع بشكل كبير، ويمكن قول أن الطاقة الصناعية تتوسع. ولكن كما أشار الاقتصادي جيسون فورمان في مجلة "فورين أفيرز" مطلع هذا العام، "تتراجع نسبة العاملين في قطاع التصنيع منذ عقود ولم ترتفع مجدداً، وما يزال الإنتاج الصناعي المحلي العام راكداً، لأسباب منها أن التوسع المالي الذي أشرف عليه بايدن أدى إلى ارتفاع الكلف، وتعزيز قوة الدولار، وزيادة معدلات الفائدة، وكلها عوامل شكلت عقبات أمام القطاعات الصناعية التي لم تحصل على إعانات خاصة من التشريعات التي رعاها". ومهما يكن الموقف في هذا الجدل، ثمة أمر واحد بات واضحاً: حتى في القطاعات التي تلقت دعماً من إدارة بايدن، مثل أشباه الموصلات والطاقة الخضراء، ما يزال طريق استعادة القيادة العالمية طويلاً وغامضاً.
قد تكون الولايات المتحدة بارعة في ممارسة الحمائية الاقتصادية مثل غيرها، لكن التضخم وارتفاع كلف المعيشة وفقدان الوظائف في الصناعات أو القطاعات التي تتضرر من الردود الانتقامية الصادرة عن بلدان أخرى ستبدأ في التأثير قريباً. يبدو أن ترامب يؤمن بأن جداراً من الرسوم الجمركية –إلى جانب الغموض بشأن سريان هذه الرسوم أو عدم سريانها في أي لحظة– يشكل حافزاً قوياً للشركات لتحديد مواقع إنتاجها داخل الولايات المتحدة، حيث يمكنها التأكد من أن منتجاتها لن تتعرض للرسوم. ولكن بوجه عام، تبحث الشركات التي تفكر في ضخ استثمارات رأسمالية كبيرة لتعزيز الإنتاج الصناعي داخل الولايات المتحدة عن بيئة تحيط بها سياسات يمكن توقعها، لا عن رسوم تفرض صباحاً وترفع مساءً. لذلك قد يقرر معظمها التريث وعدم المغامرة، إلى أن تتضح معالم السياسات التجارية، والجهات التي ستفرض عليها الرسوم، والمدة الزمنية لسريان الرسوم.
ليس السجل التاريخي للرسوم الجمركية بوصفها أداة فاعلة في زيادة الإنتاج الصناعي وفرص العمل في الولايات المتحدة حاسماً. خذوا، مثلاً، الرسوم التي فرضها ترامب في العام 2018 على الواردات الصينية. بينت دراسة نشرت في العام 2024 أعدها باحثان في مجلس الاحتياطي الفيدرالي، هما آرون فلاين وجاستن بيرس، أن "الزيادات في الرسوم الجمركية المفروضة منذ أوائل العام 2018 ترتبط بتراجع نسبي في توظيف عاملين في القطاع الصناعي الأميركي وارتفاع نسبي في أسعار الجملة. وعلى صعيد التوظيف في القطاع الصناعي، يفسر ارتفاع كلف المدخلات والرسوم الانتقامية العلاقة السلبية، إذ تفوق الآثار السلبية لهذه العوامل الأثر الإيجابي المحدود لحماية الواردات". وتشير بعض الدراسات إلى فقدان نحو 75 ألف وظيفة صناعية مرتبطة بسلاسل الإمداد كنتيجة مباشرة للرسوم، فضلاً عن خسائر إضافية ناجمة عن الرسوم الانتقامية. كذلك بين الخبيران الاقتصاديان بين ستيل وإليزابيث هاردينغ أن إنتاجية صناعة الصلب الأميركية انهارت في حين ارتفعت الإنتاجية في قطاعات أخرى، وذلك منذ أن فرض ترامب رسوماً بنسبة 25 في المئة على واردات الصلب في آذار (مارس) 2018. ذلك أن ناتج ساعة العمل في صناعة الصلب الأميركية تراجع بنسبة 32 في المئة منذ العام 2017.
ربما تنجح مقاربة ترامب في إعادة الإنتاج الصناعي إلى الأراضي الأميركية، لكن لتحقيق ذلك، يجب أن تسمح الحكومة الأميركية أصلاً للشركات الأجنبية بإجراء استثمارات في هذا الصدد. لقد عارض كل من بايدن وترامب استحواذ شركة "نيبون ستيل" اليابانية على شركة "يو أس ستيل" الأميركية، ولا يزال واضعو السياسات الأميركيون يناقشون السماح لصندوق الاستثمارات العامة السعودي بالاستحواذ على حصة مسيطرة في شركة "بي جي أي تور" التي تنظم البطولات الأميركية لرياضة الغولف –وهذا القطاع ليس قطاعاً استراتيجياً.
تحاكي الولايات المتحدة وغيرها الصين إلى حد بعيد لأن الأخيرة نجحت بطريقة لم تكن متوقعة. وجاء نجاح الصين في قطاع السيارات الكهربائية والتكنولوجيا النظيفة ليس من خلال تحرير السياسات الاقتصادية، بل من خلال تدخل الدولة في السوق باسم الأهداف القومية. وسواء استطاعت الولايات المتحدة منافسة الصين في ملعبها الخاص أم لم تستطع، تتلخص الحقيقة الجوهرية التي ينبغي الاعتراف بها في أن الولايات المتحدة باتت تعمل الآن، إلى حد كبير، وفق معايير بكين، من ضمن نموذج اقتصادي جديد يتميز بالحمائية، ومن خلال فرض قيود على الاستثمارات الأجنبية، وتقديم الإعانات، وتبني سياسات صناعية، أي ما يعرف برأسمالية الدولة القومية. في التنازع على وضع قواعد اللعبة، تبدو المعركة محسومة، في الأقل في الوقت الراهن. الصين هي الطرف الذي فاز.
*مايكل بي جي فرومان: رئيس مركز أبحاث "مجلس العلاقات الخارجية". شغل منصب ممثل الولايات المتحدة التجاري بين العامين 2013 و2017، ومنصب نائب مستشار الأمن القومي للشؤون الاقتصادية الدولية بين العامين 2009 و2013. المقال مترجم عن "فورين أفيرز"، حيث نُشر في 25 آذار (مارس) 2025

إخترنا لك

أخبار ذات صلة

0 تعليق