مقدمة لدراسة صورة الشيخ العربي في السينما الأمريكية «20»

صحيفة عمان 0 تعليق ارسل طباعة تبليغ حذف

يبدو إدوَرد سعيد Edward Said واعياً بحقيقة أن الاستشراق «حَقْلٌ مَعْرِفـيّ مُكتَسَب التَّعَلُّم» ينجم عنه إنتاج تمثيلات، ولكن، فـي الوقت نفسه، ومع الحفاظ على أن مفهوم التمثيلات، يبقى، فـي المقام الأول، «مسرحيَّاً» (1). بكلمات أخرى، يعود كل شيء إلى أصله، ولذلك فإنه ينبغي فهم كامل الممارسة النَّصيَّة للاستشراق على انه نتاج نظرة (gaze) متحكِّمة، ومسيطرة، وتُصْدِرُ الخطاب، وتؤسِّس الذَّات، وتُقيم الموضوع. ورغم أن ذلك قد يبدو من قبيل البَدَهي فـي الدِّراسات ما بعد الكولونياليَّة، فإنه، فـي الحقيقة، يكتسب معنى خاصَّاً إذا ما وُضِعَ فـي السِّياق واستُعمل بوصفه منهجيَّة بنيويَّة لتحليل تمثيلات هوليوود الاستشراقيَّة للشَّيخ العربي.

وإنه لوثيق الصِّلة بالأمر أن نتذكر هنا أن سعيداً يبدأ كتابه «الاستشراق» بالتَّركيز على ما هو مرئي؛ أي «مركز مدينة بيروت منزوع الأحشاء» فـي الحرب الأهليَّة اللبنانيَّة الدَّمويَّة التي ابتدأت فـي العام 1975، والذي – أي مركز المدينة – تراءى للمشاهِد الفرنسي، الصحفـي تيغيي ديجغدان Theiery Desjarins الذي يقتبسه سعيد، على نقيض كامل للمشهديَّة الرَّائقة فـي المدينة الحيويَّة التي انتمت فـي وقتٍ ما إلى شرق تشاتروبيان Chateaubriand ونرفال Nerval» الفاتن (2).

كما إنني مهتم على نحوٍ خاص بتوكيد سعيد على أن الاستشراق لا يتعلق بالشَّرق بقدر ما يتعلق «بعالمنا» (أي الغرب) (3)، أو كما يعبرِّ عن نفس الفكرة بكلمات أخرى: «استجاب الاستشراق للثَّقافة التي انتجته أكثر من [استجابته لـ]موضوعه المزعوم، والذي أنتجه الغرب أيضاً» (4). وحقَّاً فإن التَّسريدات (narrativizations [من: السَّرد]) المتعددة، والتَّحويلات الثِّيماتيَّة للشَّيخ العربي السِّينمائي بوصفه شخصيَّة مُنَمَّطة نابعة ومرتبطة على نحوٍ مباشر بقلق ومقتضيات محليَّة، تبوح بهذا.

وعلاوة على ذلك، فإنه من الممكن لقراءة للشَّيخ العربي الهوليوودي أن تستفـيد من مفهوم الطِّباقيَّة (contrapuntality) الذي استعاره سعيد من الموسيقى الكلاسيكيَّة الغربيَّة وطبَّقه على النَّقد الأدبي، بيد انه ينبغي القول هنا إن سعيداً لا يبدو انه قد توصل إلى صيغة متماسكة، ومُمَفْصَلَة، وواضحة لهذا النَّقل والتَّطبيق فـي «القراءة الطِّباقيَّة»؛ فعوضاً عن ذلك نجد أن إيضاحات سعيد الوجيزة للمصطلح مبعثرة هنا وهناك فـي ثنايا كتابه الضَّخم «الثَّقافة والإمبرياليَّة». «حين نستدير إلى الخلف وننظر إلى الأرشيف الثقافـي» للإمبراطوريَّة، هكذا يحاجج سعيد فـي شرحه الأوضح لتعريف المفهوم وتطبيقه، «فإننا نبدأ بقراءته ليس بمعنى واحد فقط، بل طباقيَّاً، بوعي متزامن بالتاريخ المِتروبوليتانيِّ المسرود وكذلك بتلك التَّواريخ الأخرى التي على خلفـيَّتها (وأيضاً معها) تتصرَّف الخطابات المسيطِرة» (5).

ولذلك فإنه يمكن القول استنتاجاً إن التحليل الطِّباقي يتيح مساحة للتَّفاوض مع حركة واتجاه القراءة إلى الخلف وإلى الأمام معاً بين النص وعالم/ عوالم التَّجربة/ التَّجارب التي أنتجته. يوضِح مدان سارَب Madan Sarup قائلاً إن «قراءة سعيد «الطِّباقيَّة» تقترح انه فـي قراءة نصٍّ ما فإنه يجب على المرء أن يفتحه لما دَخَلَه، وأيضاً لما أقصاه مؤلِّفه. وفضلاً عن ذلك، فإنه يجب علينا أن نربط بين بنى سردٍ ما وبين الأفكار، والمفاهيم، والتجارب التي يستقي منها إسناده» (6).

وعلاوة على ذلك، ففـي تفكُّري وبحثي عن احتمالات منهجيَّة ومقاربات نظريَّة تصلح لبحث صورة الشَّيخ العربي فـي السِّينما الأمريكيَّة، أجد انه من الممكن الجمع بين قراءة سعيد الطِّباقيَّة ومنهجيَّة معيَّنة، وطيدة الصِّلة بالأمر ومُعَمَّدَة فـي حقل النَّقد السِّينمائي؛ ذلك أنني ألاحظ تصاديا (من: الصَّدى) ينبغي ألا تخطئه أذن بين «طِباقيَّة» سعيد وفكرة الفـيلسوف الفرنسي لِوِي ألتوسير Louis Althusser حول ما يسميه «الظِّلال الدَّاخلية للإقصاء»؛ فتلك «الظِّلال» تضيء «الغيابات البنائيَّة» التي نظَّر لها محرِّرو مجلة «دفاتر السِّينما» الفرنسيَّة، وطبَّقوها فـي العام 1970 على قراءتهم التأسيسيَّة اللامعة لفـيلم جون فورد John Ford «السَّيد لِنكِن الشَّاب» Young Mr. Lincoln (الولايات المتحدة الأمريكيَّة، 1939). لقد كانت منهجيَّتهم المستوحاة من الفلسفة الفرنسيَّة ذات علاقة قربى لما يدعوه سعيد «الطِّباقيَّة» المستوحاة من الموسيقى الكلاسيكيَّة الغربيَّة فـي النَّقد الأدبي، وذلك من حيث ان القراءة النَّقدية لنص سينمائي ما يتحول إلى «عملية قراءة نَشِطَة... من أجل جعل [الأفلام] تقول ما عليها قوله ضمن ما تتركه من دون قول...» (7). وهكذا فإنني أرى انه من خلال دمج المنهجيتين (السَّعيديَّة والسينمائيَّة) يمكن إنجاز شيئين اثنين فـي نفس الوقت: أن «نرى» بوضوح ما تُريهِ أفلام الشَّيخ فـي السِّينما الأمريكيَّة باعتبارها جزءاً من «الأرشيف الثَّقافـي» من ناحية، ومن ناحية أخرى أن «نسمع» بصورة حذرة ودقيقة ما تريد تلك الأفلام أن تتكتَّم عليه وتنكره.

هذا، وفـي الوقت الذي تتَّضح فـيه أكثر فأكثر حيويَّة وأهميَّة أفكار سعيد غير المسبوقة، وعدم إمكانيَّة الاستغناء عنها لصالح أي نقد ذي معنى لصورة الشَّيخ العربي فـي السِّينما الأمريكيَّة، فإن النَّقد ما بعد السَّعيدي للاستشراق حاسم ومهم كذلك، وبالمقدار نفسه. لقد وضع سعيد الَّلبنات الأساس وصار ينبغي المضي قُدُماً فـي معرفة وهدم الجدار أكثر وأكثر. وفـي هذا السِّياق فإن عمل علي بهداد Ali Behdad يأتي باعتباره أحد الأمثلة النقديَّة الجديدة المضيئة والمهمَّة؛ ففـي نقده الضِّمني لسعيد يحاجج بهداد أن الرَّحالة الغربيين الذين جالوا وطوَّفوا فـي أربع جهات منطقة «الشرق الأوسط» بحثاً عن تجربة أصليَّة خلال الوقت الذي كانت فـيه الكولونياليَّة الغربيَّة قد بدأت تتهاوى مع نهايات القرن التاسع عشر قد خَبِروا – أي أولئك الرَّحالة -- حسَّاً فقديَّاً موجعاً بالتأخُّريَّة (belatedness). لقد وجدوا أن الشَّرق الفردوسي الذي عاشوه فـي استيهاماتهم وتصوراتهم، وجعلوه مثالاً سامياً، وتاقوا وحنَّوا إليه، كان، فـي الحقيقة، مألوفاً وعاديَّاً فقد اخترقته النَّظرة (gaze) الغربيَّة بالكامل وصيَّرته متاحاً، وعاديَّاً، ومُشاعاً. وهكذا فإن البحث الوجودي عن تجربة أصيلة شكَّل هنا مصدراً للملنخوليا والنوستالجيا (8).

--------------------------------------

(1). Edward Said, Orientalism, 36.

: (2) المصدر السابق، 1.

(3): المصدر السابق، 12.

(4): المصدر السابق 22.

(5): Said, Culture and Imperialism (London: Chatto & Windus, 1993), 59 (التَّوكيد أصلي).

(6): Madan Sarup, Identity, Culture and the Postmodern World (Edinburgh: Edinburgh University Press, 2002), 155.

(7): The Editors of Cahiers du Cinéma, “John Ford’s Young Mr. Lincoln,” in Bill Nichols, ed., Movies and Methods Vol. 1 (Calcutta: Seagull, 1993), 496.

(8): Ali Behdad, Belated Travelers: Orientalism in the Age of Colonial Dissolution (Durham: Duke University Press, 1994).

عبدالله حبيب كاتب وشاعر عماني

إخترنا لك

أخبار ذات صلة

0 تعليق