ماذا فعلتِ بنا يا سيدة رويته؟!

صحيفة عمان 0 تعليق ارسل طباعة تبليغ حذف

ونحن نتمشّى في بيت المتوني بصحبة جوهر؛ كبير خدم السيد سعيد، تذكرتُ «البنجلة»، حسب ترجمة العُماني زاهر الهنائي لمذكرات السيدة سالمة، والتي جاءت في الترجمة الأخرى للعراقية سالمة صالح «البنديلة». دار في ذهني أنّ المترجم حين يُترجِم من اللغة الأم مباشرة فهذا يعني أنه يقبض على ميزة لا يتحصّل عليها الذي يترجم من لغة وسيطة. وهذا ما يجعل ترجمتَيْ زاهر الهنائي وسالمة صالح هما الأكثر دقة، لأنهما جاءتا عن الألمانية مباشرة، لا عن الإنجليزية كما هي ترجمة الدكتور عبدالمجيد القيسي. وقد تحدثّتْ المترجمة العراقية في مقدمتها عن أخطاء فادحة قلبت المعنى في ترجمات الكتاب السابقة من الإنجليزية. سألتُ جوهر: أين هي «البنجلة» أو «البنديلة»؟ فأجاب: «الأصح البنديلة. لقد اختفت مع مرور السنين، كانت أجمل مكان في بيت المتوني؛ إذ هي شرفة عظيمة مستديرة، وكان حولها عددٌ كبيرٌ من كراسي الخيزران، وهناك منظارٌ كبيرٌ للاستخدام العام، وكثيرًا ما كان السيد سعيد يمضي هناك ساعات طويلة جيئةً وذهابًا، مفكرًا في شؤون ملكه وأحوال الرعية ومطرق الرأس بحثًا عن الأفكار الجديدة الخلاقة التي تضيف المزيد من الرفاه لشعبه». وأنا أستمع لجوهر تذكرتُ أنّ السيدة سالمة ذكرتْ في مذكراتها أنّ والدها اعتاد وزوجتُه السيدة عزة بنت سيف البوسعيدي وكذلك جميع أولاده البالغين، أن يحتسوا القهوة هنا عدة مرات في اليوم، ومن أراد أن يكلم الأب دون أن يقطع عليه أحدٌ أتاه إلى هنا بالذات وليس في أيِّ مكان آخر.

في تجوالنا أشار جوهر إلى أحد الأجنحة قائلًا: «هذا جناح بيبي عزة»، يقصد السيدة عزة بنت سيف؛ وهي إضافةً إلى كونها زوجة السيد سعيد فهي أيضًا ابنة عمّه. وقد تخيلتُها كما ذكرَتْها السيدة سالمة في مذكراتها: «هي أميرةٌ عُمانية، وكانت الآمرة والناهية في البيت؛ كانت تملك على الرغم من قِصَرها وعدم وجود ما يميّزها في المظهر، سلطة لا تُصدَّق على أبي، حتى إنه كان يتبع تعليماتها طائعًا دائمًا. وكانت مستبدة للغاية تجاه النساء الأخريات وأولادهن، ومتعالية ومتطلبة»، ولا غرابة إذن أن تقول السيدة سالمة: «كان من حُسن حظّنا أنه لم يكن لها أولاد وإلا لكان جبروتُها حتمًا لا يطاق». وأنا أقفُ في جناحها الآن، كنتُ أشاهد ذلك الطابور الذي يأتيها يوميًّا ليؤدي واجب التحية الصباحية دون أن يكنّ لها الحب، «وهكذا كان الجميع يمكن أن يشعروا بالضغط العلوي الصادر منها، ولكن دون أن يسلب ذلك الكثير من روعة الحياة في بيت المتوني عند ساكنيه»، كما تقول السيدة سالمة.

أخذَنا جوهر إلى الغرفة التي وُلِدتْ فيها السيدة سالمة وعاشت سبع سنوات، قبل أن تنتقل هي وأمُّها إلى بيت «الواتورو» في العاصمة، بطلب من أخيها ماجد الذي خلف السيد سعيد في حكم زنجبار. الغرفة باقية كما هي، ودارت أفكارٌ وأسئلةٌ في نفسي: هل تخيلتْ جدرانُ هذه الغرفة وسكانُ بيت المتوني ما ستكون عليه سالمة فيما بعد؟ طلبتُ من سيف أن يلتقط لي صورًا تذكارية في هذه الغرفة بالذات؛ فأنا أدين للسيدة سالمة بأنها عرّفتني ببيت المتوني وساكنيه وبنمط حياة والدها، ويُحسب لها أنها وثّقت حياتها في كتاب، وإلا لما كنّا نعرفُ الكثير ممّا يدور خلف جدران القصور العالية، كما أدين لها كذلك أنها حبّبتني في بيت المتوني قبل أن أزوره؛ لذا فأنا أمام كلِّ غرفة وكلِّ ركن كنتُ أستحضر مذكراتها وسنواتها السبع التي عاشتها هنا.

كانت المفاجأة عندما خرجنا من الغرفة، فإذا نحن أمام السيدة سالمة بشحمها ولحمها، جاءت لزيارة البيت الذي ولدت فيه وعاشت طفولتها، ظهرت طويلة القامة ممتلئة الجسم، ترتدي فستانًا طويلًا، حاسرة الرأس وقد غزاها الشيب. بادرتُها بالسلام مستخدمًا اسمها المسيحي: أهلا سيدة رويته. ردّت علينا وفي وجهها جهامةٌ وكأنّها تتساءل: من هؤلاء المتطفلون على غرفتي؟ ألا يكفي ما أصابني؟! تنحّى عنّا جوهر وابتعد تمامًا عن المشهد؛ يبدو أنه استعاد تلك الأيام التي حملها بين يديه وهي طفلة، وهو يحفظ لوالدتها ذكرى طيبة، إذ كانت محبوبة من الجميع، ولا أدري هل كان ابتعاده من مهابتها في قلبه أم أنّ له موقفًا مما فعلتْه؟

سألتُها: «بعد كلِّ الذي جرى لك ألم تندمي؟ ألم تكوني تعلمين بأنّك بمغامرتك تلك ستوغِرين عليك صدور عائلتك، وسيعُدُّون -هم والعُمانيون جميعًا- ما فعلتِه تلطيخًا لسمعة العائلة وصورة والدكِ العظيم؟ ألم تكوني تعلمين أنك ستدفعين ثمنًا غاليًا؟ وهل بكتابتك مذكراتك كنتِ تدافعين عن نفسك؟!». لم أتلقَ الإجابة لأنني لم أجرؤ أن أطرح أسئلتي علنًا، كانت تلك التساؤلات في نفسي فقط، أما جهرًا فقد طرحتُ هذا السؤال: «سيدة رويته؛ كيف ترين بيت المتوني بعد هذا الغياب الطويل؟» أجابت: «حزنتُ أيّما حزن. فبدلًا من أن أرى بيتًا رأيتُ خرابة متهالكة بالكامل، ولم يكن لأيِّ صوت أو حس قدرة على أن ينفِّس عني الضيق الذي انتابني من هذا المشهد غير المتوقع على الإطلاق (...) لقد وقفتُ ذاهلة طويلًا وأنا أرى اختفاء أحد الجسرين اللذين يقودان إلى الغرفة المنعزلة. اختفى تمامًا. أما الجسر الآخر فقد نمت عليه النباتات وأصبح واهيًا إلى درجة أنّ المرء لا يمكن أن يصعد عليه دون مجازفة»، (أشارت بيدها إلى الجسر الباقي وطلبت منا ألا نقترب منه) لم تعطنا أيَّ فرصة للحديث أو السؤال، إذ واصلتْ: «أكثر من نصف البيت يبدو في حالة خراب تام، كما لو أنه قد انهار، والحماماتُ التي كان الإقبال عليها كبيرًا في يوم من الأيام، وكانت ممتلئة على الدوام بالناس المبتهجة، فقدَتْ جميعُها أسقفها تقريبًا، والذي يدلّ على موقع كلٍّ منها الآن مجرد كومة من الأنقاض، وما بقي قائمًا منها -كما ترون- تجرّد من سقوفه وأرضيته أيضًا. كلُّ شيء قد تداعى أو أوشك على الانهيار، وكما تشاهدون في الفناء بأكمله ترعرعت الحشائش من كلِّ نوع. لا شيء يجعل المُشاهد الذي ليس لديه خلفية عن القصر يدرك حتى أقل القليل من الأبهة التي كان عليها». قلتُ: «سيدة رويته؛ أنتِ تتأسفين على حال بيت المتوني، ماذا لو رأيتِ حال بيت المرهوبي، الذي بناه السلطان برغش؟!». أخرجت على الفور منديلًا من حقيبتها اليدوية يشبه المنديل الذي تحمله المطربة أم كلثوم، ومسحت جبينها فيما اتكأت بيدها الأخرى على الجدار وقالت -وعلامات الغضب بادية على محياها: «لا أعرف بيت المرهوبي، ولا أريد أن أعرفه!».

كان علينا في تلك اللحظة أن نتركها دون أن أفوّت فرصة شكرها إذ حبّبتني في البيت قبل أن أزوره، كما ذكرتُ قبل قليل.

انتقلنا إلى جناح زوجة السيد سعيد الشرعية الثانية وهي فارسية. يذكر الشيخ سعيد المغيري أنها ابنة أريش ميرزا العجمي، وصحِبَتْه إلى زنجبار عام 1849 ومعها حاشية كبيرة، ويقال إنها أغاظت العرب العُمانيين بسيرتها، إذ كانت تركب الخيل وتخرج حاسرة الرأس مع حاشيتها الكبيرة، لذا لم تعش معه طويلًا فطلقها وعادت إلى فارس.

يميّز بيت المتوني تلك الحمّامات التي تقع جميعُها في صف في الفناء عند أقصى نهايته، وفي معزل عنها يقع ما يُدعى بالحمّام الفارسي الذي تصفه السيدة سالمة بأنه «في الواقع حمّام بخاري تركي، كان يُعد في زنجبار فريدًا في طراز فنّه المعماري»، وقد أرانا جوهر الحمّام الخاص بالسيد سعيد وزوجته السيدة عزة، وفيه موضع للاستراحة، كما فيه موضع مرتفع مخصص لأداء الصلوات. يقول جوهر: «كان لا يُسمح لأيِّ أحد أن يطأ هذه المواضع العالية مرتديًا نعاله».

وما لاحظناه في بيت المتوني كثرة السلالم، ولم تكن مريحة. وأنا أصعد عليها وأرى أمامي جوهر وبقربي سيف يلهثان، كنتُ أتساءل كيف كانت النسوة والأطفال يصعدون مثل هذه السلالم «التي يبدو أنها وُضعت لعملاق من العمالقة» كما وصفتها السيدة سالمة؛ لكن يبدو أنّ نمط البناء القديم كان يستخدم سلالم كهذه؛ فهذا ما لاحظتُه في معظم سلالم البيوت القديمة في زنجبار، ومنها سلالم الفندق الذي نزلنا فيه.

على كلّ حال، واصلنا تجوالنا في أقسام البيت المختلفة، وشاهدنا مدرسة تحفيظ القرآن الكريم في الركن الخلفي من البيت، وكأني أسمع المعلم يحفّظ الأطفال القرآن، ويُعلّم الذكور القراءة والكتابة وبعض الحساب، وانتقلنا إلى المطبخ الذي تُعَدُّ فيه المأكولات العربية والفارسية والتركية، بسبب الأعراق المختلفة التي عاشت في هذا البيت وفي «بيت الساحل» في المدينة.

قلتُ لجوهر ونحن نغادر الساحة الداخلية للبيت: «لا أستطيع أن أتصوّر أنّ سكان هذا البيت يصل إلى ألف نفس، كما ذكرَتْ السيدة سالمة»، قال: «هناك أجنحة أخرى للخدم في الجهة الأخرى»، عندما رآني غير مقتنع أضاف: «ثم إنّ مولاي السيد سعيد شرع في بناء بيت الراس على مقربة من هنا، بعض أن ضاق بيت المتوني بساكنيه ولكنه رحل قبل أن يكمله»، ثم أخذَنا جوهر أنا وسيف إلى المدخل الذي دخلنا منه إيذانًا بانتهاء الزيارة.

إخترنا لك

أخبار ذات صلة

0 تعليق