يحتاج العالم الذي يعيش أحد أكبر مآزقه الأخلاقية أن يطرح على نفسه في هذه اللحظة التاريخية الصعبة سؤالا وجوديا وعميقا وهو هل بقي هناك ما يمكن تسميته بـ«الضمير العالمي»؟ وهل ما زال هناك معنى لعبارات مثل «الشرعية الدولية» و«القانون الإنساني»؟ هذه أسئلة مهمة ليس من أجل غزة فقط، وهي لا تنتظر إجابة عن مثل هذه الأسئلة ولا تعنيها؛ فقد تجاوز وعيها بالعالم كل هذا، ولكن من أجل العالم نفسه ومن أجل إنسانيته؛ فما يحدث في غزة تجاوز بمراحل «المأساة الإنسانية» إلى ما يمكن أن يكون «لحظة الحساب الأخلاقي» لنظام دولي ينهار بصمت ولكن بخسائر إنسانية فادحة.
تجاوزت سياسة التجويع التي يعتمدها الكيان الصهيوني في غزة خطر «التهديد» إلى لحظة الواقع المخيفة التي بدأت تفتك بالجميع، رجالا ونساء، أطفالا ومرضى، كل سكان غزة الذين يتجاوز عددهم مليوني إنسان، نصفهم من الأطفال، يتضورون جوعا في ظل حصار مطبق هو الأبشع في تاريخ المنطقة ومن بين أبشع حصارات التجويع في التاريخ. لا أحد ينظر للجوانب الإنسانية في هذه الاستراتيجية، ترك الأمر برمته للتقديرات العسكرية التي تمسك بها مجموعة من الطغاة والمجرمين. وإذا كان القانون الدولي يصنف استخدام التجويع أداة للابتزاز والضغط السياسي بوصفها جريمة حرب متكاملة الأركان فإن الأمر الآن تجاوز هذا؛ فإسرائيل لا تريد من التجويع أداة للابتزاز السياسي ولكن أداة للإعدام.. فليس لإسرائيل مطالب تضغط من أجلها إنما مطلبها التخلص من سكان قطاع غزة، حتى الأطفال منهم. ما يعني أن هدف التجويع هو الإبادة وحدها.
فعند انعدام المطالب السياسية تتضح نية وتكتيك الإبادة الصريحة.
وما تبيّنه التقارير الميدانية من قطاع غزة، من شهادات لأمهات دفنّ أطفالهن الذين ماتوا جوعا، ومنظمات إغاثة عاجزة عن الوصول، وعمال إنسانيين يُقتلون أثناء أداء مهامهم، يكشف عن سقوط مروع للإنسانية التي هي مشترك بين جميع البشر دون اعتبار ديني أو قومي أو جغرافي.
لكن الخطر لا يتوقف عند حدود غزة؛ فحين يُشرعن التجويع كوسيلة لإدارة الصراع، فإننا لا نواجه فقط انهيارا لمبادئ القانون الدولي، بل نستطيع أن نرى تسارعا مرعبا في تفكك نموذج ما بعد الحرب الباردة، الذي طالما احتكر الغرب من خلاله تعريف العدالة، رغم أنه بقيادة الولايات المتحدة يحاول جاهدا حماية هذا النظام من الانهيار، إذا ما تجاوزنا أفعال بعض الشخصيات مهما كانت مؤثرة وقيادية. والواضح الآن أن مؤسسات الأمم المتحدة التي بُنيت لحماية المدنيين، تقف عاجزة أمام إبادة معلنة وواضحة لشعب بأكمله، في مشهد يهدد فكرة الإنسان ذاتها.
والعالم مطالب اليوم للعمل سوية من أجل إيقاف هذه المهزلة الأخلاقية والسياسية، ليس من أجل الفلسطينيين فقط، ولكن من أجل بقاء نظام عالمي يفترض أنه يستند إلى شيء من العدالة. ولا يجب أن تكون مرحلة «ما بعد النظام» التي يبدو أن العالم يعيش تفاصيلها الواضحة الآن تكون بهذا المستوى من الفوضى ومن الإجرام وإلا فإن عدوى هذا قد تنتقل من الساحات الجغرافية الكبرى إلى ساحات الدول فتعم الفوضى في كل دولة على حدة.
وإذا كان الغرب، وعلى رأسه الولايات المتحدة، يظن أن استمرار هذا الواقع المأساوي سيضمن أمن إسرائيل، فإن ذلك يعكس قراءة قاصرة للواقع. فلا يمكن لأي كيان أن ينعم بالأمن وحوله محيط جائع، ومريض، ومجرد من الكرامة ومثقل بكل مظالم الدنيا. فلا سلام يمكن أن يُبنى على أنقاض المجاعة والمظالم، ولا مستقبل يُصنع بالسكوت على جرائم التجويع.
والرهان الكبير الآن يتجاوز فكرة وقف إطلاق النار إلى إعادة الاعتبار لفكرة الإنسان، وقيم القانون الدولي ولمنظمة حقوق الإنسان ولمجلس الأمن الدولي، ولمحكمة العدل الدولية وللمحكمة الجنائية الدولية ولفكرة العيش المشترك التي أخرجت من معناها تماما.
أما غزة فلم تعد قضية فلسطينية أو عربية، إنها قضية إنسانية العالم إن كان العالم لا يزال يستطيع أن يعي ذلك، وكل دقيقة يتأخر فيها العالم عن إنقاذ سكان غزة من هذه المجاعة وفتح ممرات إنسانية آمنة هي صفعة مدوية لكل ما نعتقد أننا نمثله في الحضارة الإنسانية. وإنقاذ غزة أكبر بكثير من إنقاذ الغزيين؛ إنه إنقاذ لما تبقى من إنسانيتنا المشتركة.
0 تعليق