حوليات الحاضر

صحيفة عمان 0 تعليق ارسل طباعة تبليغ حذف

ثمة سرور دائم فـي قراءة إمبرتو إيكو، إذ إنه فـي المقام الأول، مُحاور بارع: فعندما تستمع إليه، تشعر فجأة بالذكاء، ثم تنسى كل شيء، باستثناء الضحك والتصفـيق لأدلته الدامغة فـي تعليقه على هذه الحقائق الصغيرة والكبيرة فـي حياتنا اليومية. فـي «حوليات مجتمع سائل» - وهو كتاب يضم مجموعة مختارة من مقالاته التي نُشرت فـي مجلة «الإسبرسو» الإيطالية بين عامي 2000 و2015، والتي قام بمراجعتها شخصيا قبل رحيله - يُدخلنا الفـيلسوف الإيطالي، إلى رؤيته للعالم الذي كان يعيشه بشكل يومي.

كانت عين إمبرتو إيكو، الخبيرة، تسمح له فـي التفكير الواضح، عبر التناقضات والتضاربات؛ لأن ما يحبه قبل كل شيء هو استكشاف «البالونات» من أجل جعلها تنفجر. فعندما يربط بين كل ما نعرفه أو ما لا نعرفه، ما نشتبه به وما كنا نرغب فـي معرفته، فإنه بذلك لا يروي، بل يستحضر الأشياء ويضعها فـي نصابها الصحيح ويواصل بمرح «ملاحظاته القصيرة واستطراداته حول الأشياء التي ــ خطرت ــ على باله».

إيكو، فـي المقام الأول، رجل أسلوب، ونبرة تمنح روحًا لقارئها؛ علّمنا جميعًا، بالموهبة عينها، كيف نطور ما علمته إيّاه السيميائية، لتسليط الضوء على عيوبنا ونقاط ضعفنا؛ لأن أخلاقنا بشكل عام، والحقائق الصغيرة لمجتمع (الفُرجة) تغذي تفكيره المتجول والمستنير. إنه لا يؤمن بالرموز، لكنه لا يتوقف أبدًا عن فك رموز أدوات الاتصال، مشيرًا إلى مجازاتها وألعاب ذكرياتها. فالوفرة النقدية والمعرفـية التي كان يتمتع بها، كانت وفرة شخص عليم بما يكفـي لعدم الوقوع فـي المعضلات التي تشوّه وتُصلّب الإشكاليات المختلفة. وهو بذلك، كان يأخذنا فـي محادثة طويلة مبنية على ملخصات تبدأ، على قوله، عبر ملاحظات يكتبها على المساحة البيضاء الموجودة على علبة أعواد الثقاب التي يحملها دائما والتي لم يغير نوعها طيلة حياته: «لا بوستينا دو لا مينيرفا». سبق له أن جمع قبلا مجموعة من هذه «الملخصات» فـي كتابين «كيفـية السفر مع سمك السلمون» (1997) ثم فـي «إلى الوراء، مثل جراد البحر» (2006). لم يعتبر المؤلف، الذي كان دائمًا تربويا، هذه التمارين ثانوية: إذ أنه أعاد «تأليف» كل مجلد، وقد انعكس ذلك فـي تطور القواعد والاستخدامات داخل الكتاب. ربما كان هذا هو سبب تواطؤنا معه، وبخاصة قدرته على تحديد آثار المراحل النظرية والمفاهيمية فـي نصف القرن الأخير.

تأتي هذه المقاطع الصغيرة لتكمل لوحة أعمال هذا الكاتب الذي قدم مساهمات لا حصر لها فـي علم العلامات ومشاكل الاستقبال، من «العمل المفتوح» وصولا على «حدود التأويل». ولكن كما هو الحال فـي رواياته، فإن هذه الحوليات تبقى مسكونة بثلاثة أو أربعة عناصر مهمة عائدة إلى عصرنا الطويل: ما الذي يؤسس عالمنا، وما الذي ندين به للعصور الوسطى ولتوما الأكويني، ونحن محصورون بين لوك وأرسطو، وما هي أوروبا الصالحة للعيش وكيف يمكن أن نصنعها. لكن تفكيره فـي أساسيات الثقافة الأوروبية، يسمح له بوزن الأمور من دون أن يكون غاضبًا، فلا أحد يعرف أفضل منه كيف يستوعب، من كثرة الكلام ومن وفرة الخطباء، ما يفسد طموحاتنا، ويفسد معنى الأشياء، ويسخر من كل شيء. إنه يشرح إخفاقات الزمن وخاصة إخفاقات وسائل الإعلام. كل شيء يمر أمامنا فـي هذه التعليقات، الشباب، والعجائز، وغياب القادة الإيطاليين من جيل اليساريين الذين انزلقوا إلى الهامش خارج البرلمان أو اصطفوا ليصبحوا موظفـين مدنيين من دون أن يحيدوا عن الرغبة فـي تعليم التسامح، من باب الحكمة بلا شك، ومن باب التفاؤل بالتأكيد، وربما لأن الرجل عرف إيطاليا الفاشية فـي طفولته، ولم يرغب حينها فـي فقدان بصره عن الأفق الجماعي لصالح التفكيك وحده.

إن انتشار ما يعتبر أزمات، حقيقية كانت أو مصطنعة، يقلقها بما يتجاوز مظهرها، وعبثيتها، وأحاديثها التي تشبه أحاديث الحانات. يشكل هذا العرض العام، لهذه التصرفات المأساوية -فـي بعض الأحيان- جزءا من البحث عن جمهور، ولكن لا ينبغي عليه أن ينتهي بخيبة أمل مملة. إذ لا أحد أفضل منه يعرف كيف يتذكر بروح الفكاهة أهوال الماضي، وسخافة أساطيرنا الكبرى، والخدع الحقيقية للقرون المؤسسة للعصور القديمة المتأخرة. إن مساهمته، فـي النهاية، تفترض واقعًا يمكن التحكم فـيه ويسهل نزع الدراما عنه، لأن المؤلف لا يتنازل عن إيمانه بالمسالمة التي يمكن التغلب عليها من خلال ذكاء الأشياء، وهو يرفض تقليص اتفاقياتنا إلى التعسف المطلق.

فـي السنوات الأخيرة، كان أقل اهتماما بأزمة الدولة (الإيطالية، بل - ويمكننا قول ذلك - بأزمات جميع الدول)، وهي مسألة أصبحت مراوغة حيث إن «تمييعها» يجعلها «سائلة»؛ لأن مرونتها اللانهائية تسمح لها باستيعاب وملء جميع المساحات. ويشير إمبرتو إيكو على نحو أكثر جدية إلى زيجمونت باومان؛ انطلاقا من الماركسية البولندية غير التقليدية، فقد نظر عالم الاجتماع، إلى مجتمعات ما بعد الحداثة بكل «مرونة»، تلك التي لا ينبغي لأي شيء فـيها أن يقاوم، تلك التي يكون فـيها الفرد غير مرتبط بالآخرين وقابل للاستغناء عنها (كما جاء فـي كتاب باومان «الحياة السائلة»).

ومن دون أن يبقى أبدًا عند مستوى ألعاب الانجرافات التي لا ساحل لها، يدرس إيكو تطور الحياة السياسية من خلال مشهده والاضطرابات اللغوية التي تصاحب تحول الطرق التي يُستخدم بها العالم. يسمح لنا هذا التباين بتعليق التلفاز، وبرامجه الحوارية مع مشاجراته المتوقعة، وبرامج تلفزيون الواقع، وممارسات صحافة المشاهير، وبالطبع برلسكوني الذي لا مفر منه، ولكن حماسة الرجل فـي الشارع لا تقل خضوعًا للتدقيق.

يصف إمبرتو إيكو فـي كتابه، تلك الأشياء التي تمر على أنها لا شيء والتي سيتم نسيانها غدًا؛ ومن هنا جاءت دروسه النسبية المنفصلة، وأخلاقيات الاعتدال، والشعور بالتعقيد، مما دفعه فـي عام 1980، مع رواية «اسم الوردة»، إلى سلوك مسارات الخيال للتعبير عن تعقيد الكائنات والأشياء من دون أن يضيع فـي التفكيكات الثقيلة ومن دون أن يبدو وكأنه يلمسها.

لقد لعب إيكو على عصره وعلى الظروف والأماكن التي عادت إلى ذاكرته ليجبرنا على التفكير فـيما نعرفه، عن حقيقة أن علم العلامات نزل إلى الشوارع. ومع ذلك، فإن القلق ليس أمرا زائدا عن الحاجة. إذا كانت وسائل الإعلام السمعية والبصرية، التي تتلاشى يوما بعد يوم، قد أصبحت قديمة بعض الشيء؛ لأن الصورة تنتشر بشكل مختلف، وهو ما لاحظه إيكو، فإن الحقيقة تظل أن وسائل الإعلام، التي يتفحصها باحترافـية فـي «مواقع المؤامرة»، تخلق الفرد الباحث عن ربع ساعة من الشهرة، وأن البحث عن الجمهور يظل الحاجز أمام أي تدخل عام، سياسي أم لا. ومع ذلك، فإن ثقافتها، لا تستسلم للكآبة؛ إنه مورد مطلق ضد أي ميل للحنين إلى الماضي.

تذكرنا هذه الحوليات بحاضرنا القريب، الذي هو بالفعل ماضينا، وليس فقط بسبب اختفاء المراقب الذي كتب رواية «جزيرة اليوم السابق» (1996)، حيث يلتقي الرجل المنكوب من العصر الذهبي الهولندي بسفـينة أشباح ويواجه فقط الماضي الذي لا يمكن اختصاره للجزيرة التي لا يمكن الوصول إليها. إن بداية القرن الحادي والعشرين هي بالفعل جزء من هذا الماضي. إن عصر بيرلسكوني/ساركوزي لم يعد عصرنا، وهذا يجعلنا نفكر فـي احتمالات انزعاجنا فضلاً عن حقيقة الموضوعات والعلامات التي سرعان ما تصبح عتيقة؛ لم يبق سوى المخاطر، والفجوة الإيطالية توفر مرشحًا لهواجسنا ومخاوفنا. الفجوة تعمل كعدسة مكبرة أو مرآة مخفضة.

يصبح التمرين أكثر متعة ويصبح ملح الإشارات الدوامية أكثر إغراءً. «إن الأمر متروك لكل واحد منا أن يستخرج منه الحكاية التي، عندما يتم تداولها، سوف تسعد من حولنا وتطير، دون الوقوع فـي فخاخ الروح الجادة، ما يتم تقديمه لنا باستمرار كحقيقة وسبب من دون أي هدف آخر سوى إعطاء شكل للمشهد الدائم للعمى، والذي هو مع ذلك خطير للغاية».

إخترنا لك

أخبار ذات صلة

0 تعليق