أحاول فـي هذه المقالة إثارة بعض الأفكار التي ناقشها الكاتب سالم الرحبي فـي جريدة عمان قبل أيام، فـي مقاله المعنون: «القراءة والاستهلاك.. هل كل هؤلاء الناس يقرؤون بالفعل؟» ولنبدأ بافتتاحية المقالة التي تشير للفتة ساخرة من صديقة للكاتب تصور نفسها وهي تمسك بكوب ذرة، مع استطراد طريف عن علاقة معارض الكتب بالذرة. مع اختلاف المعارض الخليجية التي زرتها لا تسقط تقليعة الذرة مهما مر الوقت.
أقرأ شخصيًا هذا السلوك كنوع من الثقافة المضادة، التي تظهرُ فـي تنويعات عديدة عابرة للحدود، إنها وبطريقة ما نقد لاذع للنخب الثقافـية أو ما تنتجه، ينطوي ذلك على ثورية ما، سرعان ما تمتلك قوة «الكيتش» kitsch وسلطته وقد تكون كما قال الكاتب روجر سكرتون: «كليشهات مستهلكة، فقدت براءتها بدون أن تحوز على الحكمة.
«لكنها مع ذلك لا تُعبر عن حالة فريدة لازدراء الكتب أو التعريض بها. وإمكانية أن يكون منبع سلوك كهذا ثوريًا لا يُلغي فـي المقابل احتمال وجود معاداة للفكر مصدرها الخوف من قدرته على التشكيك فـي السلطة وتسلسلها الهرمي، فـي أي مؤسسة كانت دينية أو سياسية. لا تقتصر معاداة الفكر على المحافظين وحدهم فقد ناهض التقدميون الثقافة لحماية قوتهم السياسية والاجتماعية عبر التاريخ.
نذهب لنقطة هامة تبدأ من عنوان المقالة وهي علاقة الاستهلاك بالكتاب. أظن بأن هنالك قدرا من التضليل عندما تُربط الظواهر الاجتماعية بالاستهلاك فحسب. لشرح ذلك هنالك مستويات عديدة، أولها أن صفة التسليع أو «الاستهلاك» كتفسير أصبحت تقليدًا مستهلكًا هي نفسها. وبهذا فإن الربط بين الظاهرة والاستهلاك صار سلعة بدوره.
وإن نظرة قريبة لواقع التفسيرات والتأويلات الخاصة بالمجتمعات ستأخذنا إلى مثقفـين يستهلكون النقد «الناقد للتسليع» لإثبات تحررهم، ويستهلك الناس تحليلات هؤلاء النقاد متملقين ذواتهم؛ لأنهم فطنوا للعبة وكشفوا عن الغموض المرتبط بالظاهرة.
يحول المثقف نفسه بهذا إلى وكيل غير واعٍ لأفكار متداولة فـي السوق وسائدة فـي المجال العام. إن هذه المقاربة خطرة إذن فـي كونها «أدائية» أولًا لكنها أيضًا «تقويضية» إذ لا تخلق معرفة جديدة، فـي الوقت الذي تدعي فـيه القدرة على النظر للظاهرة من أعلى.
يمكن القول إن التحليلات الاجتماعية تبدو كما لو أنها وصلت إلى طريق مسدود فهي لا تستطيع تفسير أي سلوك إنساني إلا بربطه بالسوق «الاستهلاك» والاتكال على هذا التحليل.
هنالك فكرة بسيطة حول نقد هذا المنظور - وأقول بسيطة هنا إذ إنني سأعود فـي الجزء الثاني من المقالة لشرح ما أظن أنه المشكل الفعلي حول «استهلاك القراء للكتب كبضائع» – وهي أنه – أي منظور الاستهلاك- يختزل الإنسان وتعقيداته إلى نمط اقتصادي يرتبط بالسوق فـيظهر الإنسان «بلا وعي، بلا مقاومة، بلا تناقضات، بلا رغبة فـي العبث أو حتى المجانية والفوضى الحرة تماما» ويتم عبره إفراغ الظاهرة من طاقتها والمفارقات الخاصة بها.
إن هذا التحليل لا يتجاوز كونه محاكاة، فـي نقد يعيد إنتاج المنظومة التي يدعي نقدها. يمكن اختصارها فـي مراجعة كولين موريز لكتاب فريدريك جيمسن The Cultural Turn فـي كون ذلك تطبيعا مع تأرجحات رأسمالية مجنونة وغير معقولة، مما ينشئ جدلية زائفة تنشأ فـيها الاختلافات من رحم التطابق» وفـي هذه الحالة يصبح منظور الاستهلاك عنصرا فـي جدلية زائفة هي نفسها تتطابق مع ما تنقده.
تتجاهل التفسيرات التي تركن للاستهلاك كما حدث فـي مقالة الرحبي، البنى السياسية والاجتماعية التي أفرزت الظاهرة، هذا ليس سلوكا شخصيا من الكاتب بل هو اتجاه عام فـي الحداثة، فلنضرب مثالا بسيطًا على ذلك إنه وبدلا من النظر فـي عدم استقرار الناس حول العالم اليوم، وفـي الغرب بصورة محددة بسبب «الاستغلال» ووضعهم فـي تراتبية هيمنة القوة من قبل السلطة الاقتصادية والسياسية، تقوم هذه المنظورات بقراءة ذلك فـي كونه حالة من «الاغتراب» الذي يقف وراءه تسليع كل شيء، وتحول الحياة الاجتماعية إلى منطق السوق والاستهلاك. بالإضافة إلى تجاهل المنظور لمسببات الحالة وتعقيداتها، فإنها أيضا تؤدي فـي سياقات عديدة إلى استجابات سياسية تتهرب من مسؤوليتها الفعلية عبر مناهضة الاستهلاك والتسليع فحسب.
وتشير الأدبيات إلى أن مناهضة الاستهلاك ليست موقفا تحرريا بحد ذاتها فالعودة عن الاستهلاك والدعوة لمناهضته شكلت لحظة هامة فـي تاريخ مراكمة رأس المال، ثم إنه وفـي المقابل يمكن أن يُستغل بطريقة عكسية كما يحدث اليوم عند حركات اليمين المتطرف التي تدعو لإعادة المرأة إلى «مجالها الطبيعي» المنزل باستعادتها من سوق العمل. بسبب من تسليع المرأة وما تتحمله لقاء انخراطها خارج «مكانها الطبيعي».
قد يكون ما سبق مغرقًا فـي التجريد لكنني سأذهب الآن إلى المقالة بأمثلة مباشرة، تتجاهل هذه الكتابة البنى، فهي وبسخطها على انعدام التفكير النقدي والفضاء العام الحيوي الذي تتدافع فـيه الأفكار ويحركه الجدل، والمجاملات بين المثقفـين، وعدم جودة الكتابة وغيرها، لا توجه سؤالًا للمؤسسات المعنية باستمرار إنتاج هذه الحالات، أو السلطات الراسخة التي تحول دون تحقق كل ما يثير أسئلة الكاتب هذه.
ولنأخذ أمثلة بسيطة على ذلك أين هو دور المؤسسات التعليمية من ذلك؟ مثال آخر لا أظن بأنه خطر على بال الكاتب حول المبادرات الثقافـية التي أُجهضتْ لأسباب لا تتعلق بأهدافها ومشروعيتها وإيمان القائمين عليها بها. لا يمكن بحال من الأحوال قراءة ونقد أي ظاهرة اجتماعية دون الإشارة لموقع الإصلاح السياسي منها، ويده الطولى فـيها، وإلا أعتبر ذلك تجاهلا للاعبين الأساسيين فـي المجتمع، ولا يتجاوز ذلك كونه نقدا ثقافويا فحسب.
وضمن إطار الحالة العامة هذه، والتي تنطوي على صمت مفروض أو كلام مسموح وفـي ظل غياب لحالة تفاعل صحية كيف استطاع الكاتب أصلًا أن يخرج بهذه الأحكام القاطعة عن غياب القراءة ودورها فـي مجتمعنا، ألا يعني انغلاق الفضاء العام، نكوصًا نحو المجال الخاص، ألم يحدث ذلك فـي روسيا مثلًا وفـي أماكن أخرى فـي العالم؟ حتى وإن كان العالم أيضا يدير لك مجالك الخاص المعدوم اليوم.
كيف نعرف قطعًا فـي هذه الحالة أن المجتمع غير فاعل فـي القراءة النقدية وفعل القراءة بحد ذاته. كيف نقيس مستوى التفكير النقدي لدى المجتمع الذي لا يُعبر عن نفسه! يكتفـي الكاتب بالإشارة إلى ما يسميه بـ«التباين الساحق» بين المدخلات والمخرجات، المدخلات القادمة من أفراد الطبقة الوسطى التي ترتاد المعرض وتشتري كل هذه الكتب، دون أن تتمكن من الفكاك من تقاليدها البائسة! فـي نظرة أظنها محدودة ممزوجة بتعالٍ، خصوصًا فـي ظل ما تمر به الطبقة المتوسطة فـي العالم أجمع، فـيما يمكن اعتباره «انحطاطًا» لها فـي حال نجاتها أصلًا فـي ظل انحسارها بصورة مروعة، لأسباب يطول شرحها، ترتبط مجددًا بالقوى المهيمنة على هذا العالم والتي تعرف حقًا أن الثورة عادة ما تخرج من رحم فردوس هذه الطبقة! هذه الطبقة المشغولة بمعترك الحياة اليومية وشروطها.
يشير الكاتب لتعريفنا أنفسنا بأننا «شعب يقرأ» ولا أعرف ما المصادر التي اعتمد عليها الكاتب ليرى بأننا قدمنا أنفسنا بهذه الصورة، وإن حدثت فـي حالات ظهرت فـي الإعلام مثلًا هل يمكن تعميمها؟ لا أعتقد بأن العمانيين قد يدعون ذلك عن أنفسهم، و«فـي حالتي أنا الشخصية وهي كحالة الكاتب لا تكفـي للوصول إلى ملاحظات دقيقة» فإنني أزور معارض الكتب فـي الخليج باستمرار والجميع يتحدث عن أهمية معرض مسقط للكتاب وعن فرادة القارئ العماني واختلافه، قد يكون معرض الرياض هو الأهم بالنسبة للناشرين إذ علينا أن نفكر فـي الكثافة السكانية فـي السعودية مثلًا، قابلتُ فـي عملي الكثير من الكتاب من دول عربية عديدة، وأستطيع أن أقول إنهم كانوا صادقين حول جدية القارئ العماني.
ولعل تحقق الكاتب العماني خلال السنوات الأخيرة دليل على جدية ورغبة فـي المساهمة الثقافـية. بل إنه وفـي كثير من الأحيان حارب بنفسه دون أن يقدم له أي نوع من الدعم لتحقيق المكانة التي وصل إليها.
أتساءل بدوري عن الفعاليات والأنشطة الترفـيهية فـي هذا الوقت من العام داخل مسقط وخارجها، وعن مدى رضا الناس عنها، واعتبار معرض الكتاب وجهة للترفـيه، أم أن هذا لا يبدو مشروعًا؟ يعتبر المعرض بالنسبة لكثيرين فرصة للقاء بعضهم البعض، وفـي مجتمع الاستعراض الذي ينوّه الكاتب له عرضا، ألوذ بجي ديبور الذي يحكي عن أهمية قسرية أنتجتها البنى لوجود مكان أوجدُ فـيه وأصبحُ مرئيًا، مكان أتعرض فـيه للآخرين ويتمكنون من رؤيتي فـيه، مكان يمكن أن نرتدي فـيه أحدث موضات الملابس مثلًا، ومع شح هذه الأماكن أو محدودية زائريها تصبح المعارض على اختلافها وجهة للناس وبدلًا من انهماك المثقف فـي قراءة حالة الاحتفال الصاخبة هذه، والنظر إلى موقعه منها، فإنه يُفضل الحكم عليها من بعيد.
فـي الجزء الأخير من المقالة أريد مناقشة فكرة «الإصرار على أن يقرأ الناس الكتب» يكتب المفكر الأمريكي ناثان جي ربنسون عن الكتب، قائلًا إنه تعرف على الكثير من الحكماء الذي لا يقرؤون الكتب، كما تعرف على الكثير من الحمقى الذين يقرؤون الكتب باستمرار. هنالك فكرة بدهية أظننا لا نختلف حولها وهي أن الكتب لا تجعلك أكثر ذكاءً لكن الفشل فـي قراءة الكتب لا يجعلك ضالًا بالضرورة. يقول: «كثيرًا ما سمعتُ ناسًا يتهمون الطلاب بعدم إجراء بحوث كافـية حول القضايا التي يحتجون عليها، غريزتي هي الإصرار دومًا على المساندة الأخلاقية لكل قضية، لا يهم مقدار البحث الذي أجريته». نصادف يوميًا عشرات الأشخاص ممن يقرؤون إلا أنهم جهلة يقدمون أنفسهم بثقة، ثم إن الكتب العلمية الزائفة تنتشر بكثرة حتى وإن بدت كأعمال بحثية جادة.
ختامًا لا يمكن الحديث عن الأفراد كما لو أنهم يمتلكون حرية الاختيار بمنأى عن الاعتناء بأن بيئتهم شكلتهم ونحتتهم البيئة التي تُضبط بأدوات عديدة.
0 تعليق