الجسد الفلسطيني بين سلطة الإبادة وسلطة المعرفة

صحيفة عمان 0 تعليق ارسل طباعة تبليغ حذف

يكتب ميشيل فوكو التالي: «الجسدُ ليس لعبةً، وإنّما هو مكانُ استثمار، سواء أكان «هذا الجسد» جسدَ الطبيعةِ، أو المجتمعِ، أو الفردِ. هذا الجسدُ هو الذي وقعتْ محاصرتُهُ وحُسبانُ حركتِهِ فـي المكانِ، والزمانِ، بخطوطِ الطولِ والعرضِ، والاستدارةِ، والوزنِ، والكتلةِ؛ بغية مراقبتِهِ وإخضاعِهِ. إنّه موقعُ المعرفةِ والرغبةِ والمصلحةِ، فلا بُدَّ أن يكونَ محلَّ نزاعٍ وصراعٍ».

بهذه الكلمات يُنظر اليوم إلى الجسد الفلسطيني الذي جرى حصاره لإبادته. من مَشاهد المجازر اليومية، وارتقاء أجساد الشهداء إلى السماء، فـي قلب مأساة أريدَ لها ألا تتوقف يعيش جسد الإنسان الفلسطيني فـي غزة اختبارا مجنونا.

يتجلى الجسد الفلسطيني لا ككائن بيولوجي فقط، بل كحقل مشحون بالسياسة والمعرفة، والسلطة لإنتاج خطابات تشكّل وجها مشوّهًا للحضارة. يرى ميشيل فوكو أن السلطة الحديثة لم تعد فقط تُمارس بالقَمع أو المَنع، بل صارت تتحكم فـي «الحياة نفسها»، فـيما يُعرف بالسلطة الحيوية (Biopower)؛ السلطة التي تدير الولادة، الصحة، التكاثر، والموت، والتي «تجعل الحياة تمر وتترك المَوت يَحدث». فـي هذا السياق، يتحول الجسد إلى استثمار سياسيّ، أمنيّ، إعلاميّ وأيديولوجيّ، تمامًا كما يحدث اليوم فـي غزة، حيث لا يُقتل الفلسطيني فقط، بل يُدَار، ويُرصد ويُراقَب، ويُترك ليِحيَا عقابا، أو يموت ضمن آليات السيطرة على السكان.

(2)

فـي غزة، لا يُعامل الجسد الفلسطيني كموضوع إنساني له الحق فـي الحماية، بل كـ «هدف حيوي» لقناصة وقتلة، كما تصنّفه العقيدة العسكرية الإسرائيلية. كان الغذاء يُقنن، وتُحدد الكميات المسموح بمرورها فـي المعابر، ويحصي عدد القتلى يوميًّا بدم بارد فـي تقارير عسكرية كما لو كانوا ملفات بيولوجية. اليوم، فـي ظل الحصار المُمنهج، «الخبز أصبح أُمنية، والماء النظيف حُلما، وحَليب الأطفال رفاهية لا تطالها الأمهات، والوجع لم يعد مجرد وجع بسبب الحرب، بل وجع أمعاء خاوية».

بهذا المعنى، تُمارس السلطة الإسرائيلية شكلًا متطرفًا من «الاستثمار» فـي الجسد الفلسطيني: التحكم فـي دورة حياته، لا لحمايته، بل لإنهاكه وتهجيره وتدميره، ضمن ما يسميه الباحثون الفلسطينيون اليوم «الإبادة البطيئة».

(3)

شهد الجسد البشري اهتماما كبيرا فـي العصر الحديث. ساهم فـي ذلك عوامل عدة تمثلت فـي أولا: «الإرث الثقيل الذي خلفته الحضارة الإغريقية من تصوير ورسم ونحت للجسد البشري وصولا إلى عصر النهضة وصالات الموضة والرياضة ومصحات التجميل». ثانيا: «نمو النزعة الفردانية والطبيعية مع صعود البورجوازية فـي أوروبا التي أعطت للفرد بالغ الاهتمام والرعاية، تمثل ذلك بإطلاق المذهب الطبيعي شعار تحرير الفرد وجسده؛ دعه يلعب، دعه يسير». ثالثا: «تطوير العلم والطب والفن» فخضع الجسد للتشريح والاتجار.

(نحن وفوكو: جسد للمراقبة والمعاقبة، بحاج عشو، كتابات معاصرة، 2007م).

فـي غزة، حيث التأكيد اليومي على تدمير الحياة والإنسان، الجسد ليس فقط ضحية؛ بل هدف استراتيجي: يُختبر عليه جميع أنواع السلاح، يُرصد حيويًّا عبر تقنيات المراقبة، يُصنّف وفقًا للتهديد المُحتمل. حتى صور الجثث والأشلاء تُوظَّف (إعلاميًّا أو أمنيًّا)، ما يحوّل الجسد إلى موقع للمراقبة والمعرفة والتجريب، تمامًا كما وصف فوكو جسد المسجون (داميان).

إن أحد أخطر أشكال الاستثمار فـي الجسد هو عندما يُختزل إلى «تهديد بيولوجي»، أو «كتلة قابلة للموت»، فتُمارَس عليه الإبادة بوصفها «إجراء أمنيًّا». هذا الانزلاق من الجسد بوصفه إنسانًا إلى الجسد بوصفه هدفًا يبرر الإبادة، ويجعلها تُمارس تحت مظلة القانون أو الصمت الدولي والتواطؤ المجتمعي العالمي.

يجد هذا التشريح الفكري تمثيله الفني فـي فـيلم (3000 ليلة) للمخرجة المؤلفة مي المصري. يستند الفـيلم إلى قصة حقيقية لأسيرة فلسطينية وضعت مولودها فـي السجن، ويصور كيف يتحول الجسد الأنثوي إلى ساحة مقاومة، حيث تلد المعلمة «ليال» طفلها فـي ظروف قهرية، ويصبح الجسد وسيلة للتحدي والاستمرار فـي الحياة.

(4)

فـي كتابه «الاستشراق»، يُظهر إدوارد سعيد كيف أن الغرب أنتج معرفة عن الشرق تُبرر الهيمنة والسيطرة، حيث يُصور الشرقي ككائن أدنى، غير قادر على تمثيل نفسه. هذه السرديات الاستشراقية تُسهم فـي نزع إنسانية الجسد الفلسطيني، مما يُسهل تبرير العنف ضده. كما يشير سعيد إلى أن «الاستشراق هو أسلوب من الفكر يستند إلى التمييز الوجودي والمعرفـي بين الشرق والغرب»، مما يُفضي إلى تبرير الاستعمار والإبادة. وفـي كتابه «بعد السماء الأخيرة- 1998م»، يُقدم سعيد تأملات شخصية حول الهوية الفلسطينية، ويُبرز كيف أن الفلسطيني يُحرم من حق السرد والتمثيل، حيث يقول: «منذ 1948 كان وجودنا من طراز أقل. عشنا الكثير الذي لم يُسجل. قُتل منّا الكثيرون، وأصابتنا ندوب، وأُخرسنا، دون أن نترك أثرًا. والصورة التي تُستخدم فـي تمثيلنا لا تقوم إلا بإنقاص حقيقتنا الفعلية أكثر. وعند الكثيرين لا يُرى الفلسطيني أساسا إلا فـي هيئة المُقاتل أو الإرهابي أو المُطارَد».

هكذا، يتقاطع فكر فوكو حول السلطة الحيوية، وتحليل إدوارد سعيد لخطابات التمثيل والسرديات، مع تجليات الفنون الفلسطينية (غناءً ومسرحا وسينما ورواية وقصصا) حيث تنقل هذه الفنون الجسد من موقع الضحية الصامتة إلى فاعل يُقاوم بالسرد، وبالصوت، وبالوجود. سواء كان الجسد فـي السجن أو على خشبة العرض، أو فـي السينما، فهو لا ينفكّ يُخبرنا بأنّ ما يُستثمر فـيه من مَوت، لا يمكن أن يُطفئ ما يَسكنه من حياة؛ من صفحات الفكر إلى مشاهد المسرح، ومن السرد الأكاديمي إلى الدم المسفوك فـي الأزقة، يبقى الجسد الفلسطيني دليلاً فاضحًا على عنف الحداثة، حين تدار بأدوات الاستعمار، ودليلاً أكثر فصاحة على معنى البقاء، حين يكون الوجود ذاته مقاومة.

(5)

ليس سهلاً أن نكتب عن الجسد الفلسطيني، لأننا لا نكتب عن رمزية، بل عن لحم حيّ يُقصف، يُحاصر، يُهجّر، يُدفن، يُجوّع. لا نكتب عن نظرية فقط، بل عن طفل لم يعد يحمل حقيبة مدرسية، بل طفل يفقد ذراعه... قدمه... عينه، عائلته.

نكتب عن عائلات شُطبت من السجلات المدنية، عن جدٍ دفن (روح الروح) ولحق بها غدرًا، عن عجوز تجّر هيكلها العظمى تتوسل رشفة ماء، عن أم تُخرِج جثة طفلها من تحت الرُّكام، وتضعه فـي حضنها جريحا أو ميتا، كما لو كانت تعيده إلى الرَّحم كي تَحميه من جديد من هذا العالم الذي يضم أقذر مجموعة بشرية وجدت إطلاقا. فـي كل جسد فلسطيني تُزهَق روحه بسبب صمتنا، خجلنا، ضعفنا، استسلامنا، انحطاطنا، يَنهار معنا سؤال المَعنى، والحق، والعدالة.

لكن رغم كل هذا، لا يزال الجسد الفلسطيني يَكتب نفسه أمام شاشات هواتفنا، يَتكلم بلغته، يَنهض من تحت الردم شاهرًا ورقة إدانتنا، ومحتفظاً بجذوته. ربما لا نستطيع وقف المجازر، لكننا نستطيع أن نكتب، أن نُسجّل، أن نتكلم عنهم، أن نرفض إزاء دمائهم أن يُختزل الإنسان الفلسطيني فـي خريطة أمنيةٍ أو ملفٍّ طبيّ، أو تصريح مرور. لأنّ الجسد، كما قال فوكو، ليس ملكًا للسلطة، بل هو حقل إمكانيات. ولأن الفلسطيني، كما قال إدوارد سعيد، ليس «قضية»، بل إنسان له وجه، وصوت، وجسد جدير بالحياة.

إخترنا لك

أخبار ذات صلة

0 تعليق