loading ad...
في زمن تتسارع فيه التحولات وتُعاد فيه صياغة معايير التقدم والنهوض، لم يعد التعليم ترفًا تنموياً أو مجرّد مطلب اجتماعي، بل بات ضرورة استراتيجية وجودية لأي دولة تسعى لمكان لها بين الأمم. والتعليم في جوهره ليس مجرد نظام إداري أو أكاديمي، بل هو بنية حضارية شاملة، ومشروع وطني طويل المدى، تتقاطع عنده كافة السياسات: من التنمية الاقتصادية إلى العدالة الاجتماعية، ومن الأمن القومي إلى الثقافة والهوية. وإذا كان لا بد من نقطة بدء لهذا المشروع، فإن المعلم هو هذه النقطة، وهو محور كل تحول حقيقي وفاعل في بنية التعليم.اضافة اعلان
مرّت المنظومة التعليمية الأردنية بتحولات بارزة منذ ستينيات القرن الماضي، حيث شكّل التعليم في تلك المرحلة أداة للنهوض الوطني وبناء الوعي. ساهمت جهود الدولة في توسيع قاعدة الالتحاق، ومحو الأمية، ونشر المدارس في المدن والأطراف. غير أن العقود الأخيرة أظهرت تراجعاً تدريجياً في التركيز على النوع، لصالح الكم، وعلى البنية دون الإنسان. أصبح الاستثمار في المعلم محدودًا، وتقلّص حضوره في السياسات، وتآكلت مكانته الاجتماعية، رغم أنه ما يزال حجر الأساس في استقرار التعليم واستدامته.
إن التحديات التي يواجهها المعلم الأردني اليوم متعددة الأبعاد، تبدأ من الظروف الاقتصادية الصعبة، مرورًا بضغط السياسات الإدارية المركزية، وغياب الحوافز المهنية، ولا تنتهي عند التهميش المتزايد لدوره في صياغة السياسات والمناهج التي يُفترض به أن ينفذها. وبدل أن يكون شريكًا في تطوير منظومة التعلم، بات في كثير من الأحيان مجرّد منفّذ، يُطالَب بالتحمّل دون تمكين، وبالإنجاز دون دعم.
ما يزيد من عمق الأزمة هو أن هذا التراجع يحدث في وقت تتسابق فيه الدول على الاستثمار في رأس المال البشري، وتخصّص فيه الحكومات المتقدمة الحصة الأكبر من ميزانياتها لتطوير المعلمين، باعتبارهم ضمانة المستقبل. النموذج الفنلندي، على سبيل المثال، قام على قاعدة أن المعلم يجب أن يكون من النخبة فكريًا ومهنيًا، ويُمنح التدريب الأعمق والثقة الكاملة. أما في سنغافورة، فقد كان نجاح التعليم مشروطًا بإعداد المعلم إعدادًا تنافسيًا، يُدار بمسارات وظيفية واضحة، تتيح له النمو والتميز والتأثير. في كندا، تجاوزت الحكومات فكرة إصدار التعليمات للمعلمين، وانتقلت إلى مرحلة التخطيط بالشراكة معهم، تقديرًا لدورهم المحوري في تحسين نواتج التعلم.
هذه التجارب لم تنجح فقط لأنها استثمرت ماليًا في التعليم، بل لأنها أعادت صياغة علاقتها مع المعلم. أدركت أن أي تطور حقيقي يبدأ من هناك، من لحظة الوقوف الصادق أمام واقع المعلمين، ومن مساءلة السياسات لا الأفراد.
وفي الأردن، إذا أردنا أن نؤسس لنظام تعليمي عصري، منتج، قادر على مواجهة التحديات، فلا بد أن نعيد بناء هذه العلاقة. وهذا يتطلب تحوّلًا جادًا في الرؤية، لا مجرد تعديلات إجرائية. فالمعلم لا يحتاج إلى مبادرات موسمية، بل إلى مسار مهني مستقر وواضح، وإلى فرص للتدريب والتقدم مبنية على الكفاءة، وإلى بيئة عمل تحترمه فكريًا واجتماعيًا، وتمنحه أدواته الكاملة، لا نصفها. كما يحتاج إلى أن يُستمع لصوته في صياغة السياسات، وإلى أن يُشرك في تطوير المناهج والتقييم، لا أن يبقى خارج غرفة القرار.
إن بناء رؤية تعليمية وطنية جديدة لا يمكن أن يتم بمعزل عن المجتمع، ولا بتجاهل الأعباء المتراكمة، بل عبر إشراك حقيقي للمعلمين أنفسهم، والنقابات، والخبراء، وصناع السياسات، ضمن حوار وطني صريح، يقود إلى ميثاق تربوي جامع يعيد الاعتبار لمكانة التعليم، ويدمج التعليم العام في مشروع الدولة التنموي الأشمل.
في هذا السياق، لا بد من التأكيد على أن التعليم لا يمكن أن يُصلَح بقرارات معزولة عن السياق الاجتماعي والسياسي. هو مشروع يحتاج إلى استقرار في السياسات، وإلى دعم مالي يتناسب مع طموحاته، وإلى إرادة سياسية تعتبر المعلم جزءًا من أمن الدولة الثقافي والمعرفي، لا مجرد موظف في مؤسساتها. المعلم الأردني يملك الطاقات، ويؤمن برسالته، لكنه بحاجة إلى نظام يُنصفه، وإلى قيادة تربوية تستثمر فيه، لا تُفرّغ طاقاته بالمطالبة دون تمكين.
إذا كان الأردن قد اختار منذ تأسيسه أن يكون الإنسان محوره، فإن الوقت قد حان لتجديد هذا الخيار، وإعادة ترجمته تربويًا. المعلم ليس طرفًا في معادلة الإصلاح، بل هو مُحرّكها. وإذا أُهمل أو أُقصي، فإن كل محاولات التطوير الأخرى ستظل تدور في فراغ. إن بناء مدرسة منتجة، منفتحة، قادرة على بناء الإنسان الأردني، يبدأ من استعادة المعلم لوظيفته الحضارية، وإعادة الاعتبار لمهنته، لا فقط عبر السياسات، بل في الوعي العام، وفي ثقافة المجتمع، وفي سردية الدولة.
التعليم هو طريق المستقبل، والمعلم هو دليلنا فيه. ومن هنا، فإن إصلاح التعليم في الأردن يبدأ من هنا، من هذه الحقيقة البسيطة العميقة، التي ينبغي أن تكون البوصلة لكل مَن يكتب، أو يضع خطة، أو يتطلع إلى أردن أكثر عدالة وازدهارًا.
0 تعليق