loading ad...
في لبنان، حيث يتحوّل التاريخ إلى أزمة يومية والواقع إلى اختبار دائم للقدرة على التحمّل، تُولد السينما كفعل مقاومة، كنافذة مفتوحة على اختناق الداخل، وكوسيلة لفهم الهوية قبل أن تسيطر عليها الصور النمطية الجاهزة وتختزلها.اضافة اعلان
هذا ما تمنحه مؤسسة عبد الحميد شومان ضمن برنامج "ليالي الفيلم اللبناني"، من خلال عرض ثلاث تجارب سينمائية من توقيع ثلاثة من أبرز الأسماء في تاريخ السينما اللبنانية: مونيا عقل، مارون بغدادي، وسيريل عريس.
ورغم أن الأفلام الثلاثة تنتمي إلى أزمنة وخلفيات إنتاجية وأساليب مختلفة، فإنها تتقاطع في همّها العميق: كيف يمكن أن نصمد في وطن تتآكله الحرب، الطائفية، التلوث، والنسيان؟ وتفتح هذه الأفلام نافذة تأمل عميق في معنى الانتماء، وسبل النجاة، وسؤال الهوية في لحظة وطنية هشّة.
تضم العروض فيلم "كوستا برافا، لبنان" لمونيا عقل (2021)، و"تسعون" لمارون بغدادي (1978)، وفيلم "الرقص على حافة البركان" لسيريل عريس (2023). ثلاثة أعمال متباينة في الشكل والأسلوب، لكنها تلتقي في جوهرها حول مركزية الإنسان اللبناني أمام آلة الانهيار.
كوستا برافا، لبنان.. كيف تتحوّل العزلة إلى فخ سياسي؟
تقدّم مونيا عقل في فيلمها كوستا برافا، لبنان عملاً درامياً مُركّباً يخلط بين الواقعية البيئية والمجاز السياسي في آنٍ واحد. عائلة بدري، بتمردها الهادئ، تحاول اختراق القوقعة المدينية وتؤسس لحياة "نظيفة" خارج بيروت، في بيت جبلي يبدو أنه صُمم ليحمي نقاء الروح. لكن الواقع اللبناني، المثقل بفساد مزمن وتراكم للنفايات الرمزية والحرفية، يزحف نحوهم في صورة مكب نفايات غير قانوني يُبنى بالقرب منهم.
" width="400" height="225" frameborder="0" allowfullscreen="">
الرؤية الإخراجية لعقل حساسة وذكية؛ تعتمد على كاميرا مراقِبة، غير متطفلة، توثق بصمة انهيار الحلم. الطبيعة، بعناصرها البكر، تُقدَّم في كادرات واسعة تتيح للمشاهد أن يشعر بتناقض صارخ بين ما هو طبيعي وما هو مفروض بقوة السلطة، الأزواج، الأبناء، وحتى الطفلة الصغيرة، يظهرون كأنهم محاصرون لا بالجغرافيا بل بالقدر اللبناني.
الفيلم لا يكتفي بالتشخيص، بل يقدّم استعارة مرّة عن استحالة العزلة في بلد لا يترك أحدًا ينجو. التلوث هنا ليس مجرد قمامة، بل رمزية للعفن السياسي والاجتماعي الذي يتسلل إلى أكثر الأماكن براءة. كل تفصيل –من حركات الجرافة إلى توتر الأم وارتباك الأب– يعكس تمزق البنية العائلية حين يصطدم الحلم بالنظام.
وشارك كوستا برافا في عدة مهرجانات دولية منها فينيسيا، يُجيد استخدام التوتر البيئي كخلفية درامية لتفكك الأسرة. هنا، لا يتعلق الصراع فقط بالمكب، بل بما يُمثله: السلطة التي تفرض نفسها دون استئذان، والذاكرة الجمعية التي تلاحق اللبنانيين حتى في عزلتهم الطوعية.
أداء نادين لبكي وصالح بكري يضيف طبقات من النضج العاطفي، حيث يتشابك الحب مع الاستياء، والرفض مع الحنين.
فيما الجانب البصري في الفيلم يعزز ثنائية الصفاء والتلوث، من خلال كادرات واسعة للجبل تُقابلها مشاهد صادمة للقمامة والآليات الثقيلة، وكأن الفيلم يقول: لا مفر من التلوث، سواء كان مادياً أو أيديولوجياً.
تسعون.. "الزمن ككائن حي: حوار مع الضمير الثقافي اللبناني"
بصوته السينمائي التأملي، يلتقي مارون بغدادي مع الأديب والمفكر ميخائيل نعيمة، في لقاء هو أقرب إلى جلسة كشف روحي. لا كاميرات متحركة ولا موسيقى تدخل المشهد، بل وجه نعيمة المتجعد، وعيناه اللتان لا تزالان تلمعان بأسئلة أكبر من الحرب.
هو مقابلة مطوّلة مع ميخائيل نعيمة، الأديب اللبناني الذي تجاوز الأدب ليصبح ضميراً ثقافياً وفلسفياً. بغدادي، أحد أبرز الأصوات السينمائية اللبنانية في فترة ما قبل الحرب، لا يعامل المقابلة كمجرد توثيق، بل كمسرح تأملي. الكاميرا تلازم وجه نعيمة، بملامحه الشاهقة وصوته الهادئ، وهو يسرد تفاصيل نشأته وتكوينه الروحي والفكري، ويتنقل بين مواضيع الحرب، والبيئة، والمرأة، والطائفية، كما لو أنه يتنبأ بانهيارات لاحقة.
يعتمد بغدادي أسلوب التبسيط الشكلي كي يفسح للمحتوى العمق. فالكاميرا الثابتة تسجل بصمة صوت رجل يتأمل في الجذور والمصير، في الجيل الجديد، في مكانة المرأة، في البيئة، في الكلمة والسكوت. المونتاج لا يسعى لإبهار بل لتدفق شعوري متدرج يلتقط الفكر قبل أن يُختطفه الزمن.
الفيلم، رغم بساطته الشكلية، يُعد فعلًا سينمائيًا حادًا، يواجهنا بالحكمة بوصفها مقاومة، وبالزمن كمرآة صادقة لا ترحم. بغدادي لا يريد من الكاميرا أن تمثّل، بل أن تصغي، وهي تفعل ذلك ببراعة. ونعيمة، بتواضعه وشموخه، يُجسّد ذاكرة لبنان الفكرية التي تُهمّش في ضجيج الحروب.
قوة الفيلم لا تكمن في البناء السردي التقليدي، بل في الجرأة البصرية والبساطة الشكلية التي تعيد للمشاهد أهمية الإنصات. كأن بغدادي يقول إن السينما ليست فقط مؤثرات وضجيجًا، بل أيضًا لحظة مواجهة بين الذات والحقيقة. نعيمة، بعين الفيلسوف، لا يكتفي بالإجابة، بل يعيد صياغة السؤال عن الهوية اللبنانية والوجود الإنساني ككل.
الرقص على حافة البركان.. حين تصير الكاميرا فعل مقاومة
في ذروة الانهيار اللبناني، يقرّر المخرج سيريل عريس أن يوجّه عدسته نحو انهيار آخر: انهيار السينما في بلد محطّم. هكذا يولد فيلمه الوثائقي الرقص على حافة البركان، الذي يتتبع كواليس تصوير كوستا برافا، لبنان للمخرجة مونيا عقل، في لحظة وطنية معلّقة بين الرماد والغضب، بعد انفجار مرفأ بيروت، وفي ظل أزمة اقتصادية خانقة وجائحة عالمية.
ينتقل الفيلم بين مشاهد تصوير العمل الروائي ومشاهد لبيروت الجريحة، في تماهٍ بصري يحوّل الكواليس إلى قلب السرد. لا يبحث عريس عن بطولات، بل عن ما هو أندر: عن الصبر، عن الإصرار، عن تلك الإرادة التي تُبقي الكاميرا دائرة وسط الخراب. المونتاج المتوتر واللقطات الوثائقية المربكة لا تزيّن الواقع، بل تكشف هشاشته، وتُحاكي ما يعنيه صنع فيلم في ظروف تتحدى كل منطق الإنتاج.
" width="400" height="300" frameborder="0" allowfullscreen="">
في هذا العمل، لا يوثّق عريس فقط عملية التصوير، بل يقدّمها كاستعارة حيّة لمقاومة الانهيار. فالفيلم لا يصوّر فيلمًا فقط، بل يصوّر كيف يصبح إنجاز الفيلم فعلًا سياسيًا، مقاومًا، ومحمولًا على أكتاف فنانين أنهكتهم أوزان بلد يتداعى. الممثلون، الكادر الفني، الأطفال، المخرجة، كلهم جزء من دراما حقيقية توازي ما يُصوَّر أمام الكاميرا.
يستحضر عريس مشهدًا بصوت ناديا تويني من فيلم همسات (1980) لمارون بغدادي، ليضعه في مواجهة مع بيروت ما بعد الرابع من آب. صوت تويني الشاعري عن مدينة لا يمكن كرهها، يصبح مرآة للألم المتكرّر، حيث تنتقل المدينة من حرب أهلية إلى انفجار، ومن الحطام إلى الحطام.
الوثائقي يفتح نافذة على لحظات نادرة خلف الكواليس: ممثلون يتدرّبون ويبوحون بأحزانهم، الطفلتان اللتان تجسّدان شخصية "ريم" تبدوان كرمزٍ للبراءة المحاصرة بالقذارة السياسية، فيما وصول الممثل الفلسطيني صالح بكري يتحوّل إلى قصة معقّدة بحد ذاته، بين الاحتلال وجواز السفر، وصولًا إلى لحظة دخوله لبنان عشية الانفجار.
يتعقّب الفيلم التوازي بين الرواية والواقع: عائلة تهرب من فساد المدينة إلى الطبيعة، ليلاحقها مكب نفايات، بينما في الواقع طاقم الفيلم نفسه مُحاصر بانهيار الدولة وتفكك البنى التحتية. هنا، لا يسبق الفن الكارثة، بل يتزامن معها، يرقص على حافتها، ويجد في استمرار العمل نفسه معنىً للنجاة.
حتى بعد انتهاء التصوير، لا تنتهي المعاناة. العتمة، ضعف التمويل، صعوبة المونتاج، كلها تحوّل استكمال الفيلم إلى معركة استنزاف. لكن رغم ذلك، ينجح الفريق في إيصال كوستا برافا، لبنان إلى مهرجان البندقية. تلك اللحظة المشرقة لا تُلغي ثقل الانتماء إلى بلدٍ مأزوم، بل تسلط الضوء عليه.
بسرده المتقشف، لا يصنع عريس فيلمًا عن صناعة فيلم فقط، بل عن معنى أن تُمسك بالكاميرا حين ينهار العالم من حولك. الرقص على حافة البركان ليس استعارة هنا، بل توصيف دقيق لفنٍ يحاول النجاة من الرماد، ولبلدٍ يرقص على شفير السياسة، الطائفية، والانفجار.
ثلاث رؤى.. وطن واحد: السينما بوصفها فعل نجاة
ما يجمع هذه الأفلام الثلاثة ليس فقط البلد الذي تنتمي إليه، بل اللغة السينمائية التي تسعى لفهم ما لا يُفهم: كيف يعيش الفرد في زمن الجماعة المفككة؟ كيف نحمي الحلم؟ وكيف نواجه الذكرى؟
في "كوستا برافا"، نحاول بناء عالمٍ بديل. في "تسعون"، نسترجع ما تبقى من الحكمة. وفي "الرقص على حافة البركان"، نصوّر لأن الصمت أخطر.
هذه هي السينما اللبنانية، حين تصبح أكثر من سرد للحكاية: إنها موقف، وانحياز، ومحاولة لفهم الذات والآخر وسط رماد لا يبرد.
0 تعليق