loading ad...
ألوف بن* - (هآرتس بالعربي) 21/4/2025
في صيف العام 1966، عندما كانت الحرب في فيتنام في أوجها وكان مئات الآلاف من الجنود الأميركيين يقاتلون في الأدغال الآسيوية ضد قوات "الفيت كونغ" (الجبهة الوطنية لتحرير جنوب فيتنام)، لمعت في ذهن محرري "معاريف"؛ الصحيفة الأكثر انتشارًا في إسرائيل في ذلك الحين، فكرة رائعة: إيفاد موشيه ديان، الذي كان يشعر بالملل كعضو كنيست في المعارضة، إلى الميدان ليعمل كمحلل عسكري. وقد استجاب ديان لإغباء المغامرة، وتجول، على مدار شهرين، في عواصم الغرب وفي ميادين القتال، وشارك في جولات وكمائن والتقى قباطنة الحرب وقادتها.اضافة اعلان
تثير تقارير ديان، التي تم جمعها في كتاب "يوميات فيتنام"، نوعًا من الغيرة الصحفية. كان صيت قائد حرب سيناء يسبقه وفتح له كل الأبواب، تقريبًا. في لندن، التقى مونتغومري، بطل الحرب العالمية الثانية. وفي واشنطن التقى وزير الدفاع ماكنامارا، مهندس الحرب. وفي سايغون التقى الجنرال ويستمورلاند، الذي يرمز اسمه اليوم إلى الهزيمة المُذلة، لكنه كان ما يزال يأمل في النصر في ذلك الوقت. كان محدثوه متعطشين إلى سماع تقييم مهني من الجنرال الإسرائيلي، الذي أدرك منذ اللحظة الأولى أن حرب الأميركيين كانت عديمة الجدوى ولا أمل فيها.
كانت كتابة ديان مدهشة آسِرة وتحليلاته حادة وقاسية "الموتى موتى والأحياء أحياء"، كتب عن وحدة تعرضت لخسائر كبيرة ثم عاودت القتال، مثلما قال عن قتلى الجيش الإسرائيلي في عملية الانتقام في غزة، "عملية السهم الأسود" في 28 شباط/ فبراير 1955). لكن قوة الكتاب لا تكمن في التاريخ فقط، بل في علاقتها بالأحداث الراهنة أيضًا. كانت بيانات ضباط الإعلام الأميركيين، الذين عرضوا إنجازات القتال على الضيف الإسرائيلي، أشبه ببيانات التلقين التي يلقيها المتحدث الرسمي باسم الجيش الإسرائيلي خلال الحرب الحالية. كذا وكذا من القتلى للعدو؛ كذا وكذا من الأراضي التي تحت سيطرتنا. لكن ديان لم يتأثر: لقد فهم أن "الفيت كونغ" يعيدون على الفور احتلال أي مساحة من الأرض "تم تطهيرها" بمجرد مغادرة الأميركيين لها؛ تمامًا مثلما تفعل الآن في قطاع غزة حركة "حماس" التي عادت إلى الحياة بنحو 20 ألف مقاتل ومئات الكيلومترات من الأنفاق، بعد أن كانت قد هُزمت وقُتل قادتها، ظاهريًا.
في غزة لا توجد برك وحل مثل التي كانت في فيتنام. لكن الشبه بين الحربين يقفز مباشرة أمام الأعين. كما يحدث مع الجيش الإسرائيلي اليوم، أظهر القادة الأميركيون أيضًا روحًا هجومية، واعتمدوا على قوة هائلة من النيران وتقنيات متقدمة لم تكن متوفرة لدى العدو، واستهتروا بحياة المدنيين الذين تعرضوا للقصف والتهجير من قراهم، مثلما حدث مع الفلسطينيين في رفح والشجاعية وخانيونس. وهناك فروقات بطبيعة الحال: كان الأميركيون ينشطون بعيدًا عن بلدهم. لم تكن قوات "الفيت كونغ" قد هاجمت أميركا ولم تختطف مواطنين أميركيين. ولم تتغذ الحرب في آسيا على التعصب الديني كما هو الحال عندنا.
مع ذلك، وبعد سنة ونصف السنة من الحرب، يبدو أن بنيامين نتنياهو، ويسرائيل كاتس، وإيال زامير يسيرون على خطى الرئيس جونسون، والوزير ماكنامارا، والجنرال ويستمورلاند في الطريق المسدود نفسه. وقد توقف رئيس الوزراء عن تكرار الوعد بتحقيق الانتصار المطلق، وأصبح يعقد الآن آماله على دول بعيدة تستقبل الفلسطينيين وتسمح لإسرائيل بتنفيذ تطهير عرقي في قطاع غزة ("رحيل طوعي"). أما زامير، فيتحدث عن سلفه كقائد خاسر خائب بينما يقدم نفسه كأنه صاحب براءة اختراع الانتصار -لو أتاحوا له فقط فرصة تنفيذ خططه. هذه هي خلفية التغيير في تقديرات الجيش الإسرائيلي حول إنجازاته في قطاع غزة، والتي انقلبت من الحسم، إلى الجمود، فالقفز الموضعي، مع تغيير رئيس هيئة الأركان.
يبدو أن زامير يخاف من الخسائر أكثر من هرتسي هليفي. وبدلاً من عمليات "ابحَث ودَمِّر" من على الأرض، يمتنع الجيش الإسرائيلي عن المخاطرة، ويهاجم نشطاء "حماس" من الجو ويوقع قتلًا ودمارًا هائلين بين الفلسطينيين العزل. وفي المقابل، تقرر "حماس"، مثل "الفيت كونغ"، ما إذا كانت ستقاتل ومتى. وهي تفضل الاختباء، والسيطرة على السكان واستجماع القوة، على أمل أن يفرض دونالد ترامب على نتنياهو وقفًا لإطلاق النار وانسحابًا مقابل الرهائن.
ولكن إذا ما فشلت المفاوضات واستعد الجيش الإسرائيلي مرة أخرى لاحتلال قطاع غزة، فعندئذ يجدر بزامير قراءة كتاب ديان "يوميات فيتنام" قبل أن يصدر الأمر للقوات بـ"التحرك". وبالتأكيد سيكون لديه ما يتعلمه.
*ألوف بن Aluf Benn: صحفي ومحلل سياسي إسرائيلي يشغل منصب رئيس تحرير صحيفة "هآرتس" منذ العام 2011. يعد من أبرز الأصوات في الإعلام الإسرائيلي، ويمتاز بتحليلاته المتعمقة للشؤون السياسية والأمنية في إسرائيل. بدأ مسيرته الصحفية في "هآرتس" في العام 1989، وتدرج في مناصبها حتى أصبح من أبرز كتابها، حيث غطى مواضيع تتعلق بالقيادة الإسرائيلية، وعلاقات إسرائيل الخارجية، وقضايا الأمن القومي. كتب بن أيضًا في صحف ومجلات دولية مرموقة، مثل "نيويورك تايمز" و"فايننشال تايمز" و"فورين أفيرز"، ويعرف بآرائه النقدية للسياسات الحكومية الإسرائيلية، خاصة في ما يتعلق بالصراع مع الفلسطينيين.
في صيف العام 1966، عندما كانت الحرب في فيتنام في أوجها وكان مئات الآلاف من الجنود الأميركيين يقاتلون في الأدغال الآسيوية ضد قوات "الفيت كونغ" (الجبهة الوطنية لتحرير جنوب فيتنام)، لمعت في ذهن محرري "معاريف"؛ الصحيفة الأكثر انتشارًا في إسرائيل في ذلك الحين، فكرة رائعة: إيفاد موشيه ديان، الذي كان يشعر بالملل كعضو كنيست في المعارضة، إلى الميدان ليعمل كمحلل عسكري. وقد استجاب ديان لإغباء المغامرة، وتجول، على مدار شهرين، في عواصم الغرب وفي ميادين القتال، وشارك في جولات وكمائن والتقى قباطنة الحرب وقادتها.اضافة اعلان
تثير تقارير ديان، التي تم جمعها في كتاب "يوميات فيتنام"، نوعًا من الغيرة الصحفية. كان صيت قائد حرب سيناء يسبقه وفتح له كل الأبواب، تقريبًا. في لندن، التقى مونتغومري، بطل الحرب العالمية الثانية. وفي واشنطن التقى وزير الدفاع ماكنامارا، مهندس الحرب. وفي سايغون التقى الجنرال ويستمورلاند، الذي يرمز اسمه اليوم إلى الهزيمة المُذلة، لكنه كان ما يزال يأمل في النصر في ذلك الوقت. كان محدثوه متعطشين إلى سماع تقييم مهني من الجنرال الإسرائيلي، الذي أدرك منذ اللحظة الأولى أن حرب الأميركيين كانت عديمة الجدوى ولا أمل فيها.
كانت كتابة ديان مدهشة آسِرة وتحليلاته حادة وقاسية "الموتى موتى والأحياء أحياء"، كتب عن وحدة تعرضت لخسائر كبيرة ثم عاودت القتال، مثلما قال عن قتلى الجيش الإسرائيلي في عملية الانتقام في غزة، "عملية السهم الأسود" في 28 شباط/ فبراير 1955). لكن قوة الكتاب لا تكمن في التاريخ فقط، بل في علاقتها بالأحداث الراهنة أيضًا. كانت بيانات ضباط الإعلام الأميركيين، الذين عرضوا إنجازات القتال على الضيف الإسرائيلي، أشبه ببيانات التلقين التي يلقيها المتحدث الرسمي باسم الجيش الإسرائيلي خلال الحرب الحالية. كذا وكذا من القتلى للعدو؛ كذا وكذا من الأراضي التي تحت سيطرتنا. لكن ديان لم يتأثر: لقد فهم أن "الفيت كونغ" يعيدون على الفور احتلال أي مساحة من الأرض "تم تطهيرها" بمجرد مغادرة الأميركيين لها؛ تمامًا مثلما تفعل الآن في قطاع غزة حركة "حماس" التي عادت إلى الحياة بنحو 20 ألف مقاتل ومئات الكيلومترات من الأنفاق، بعد أن كانت قد هُزمت وقُتل قادتها، ظاهريًا.
في غزة لا توجد برك وحل مثل التي كانت في فيتنام. لكن الشبه بين الحربين يقفز مباشرة أمام الأعين. كما يحدث مع الجيش الإسرائيلي اليوم، أظهر القادة الأميركيون أيضًا روحًا هجومية، واعتمدوا على قوة هائلة من النيران وتقنيات متقدمة لم تكن متوفرة لدى العدو، واستهتروا بحياة المدنيين الذين تعرضوا للقصف والتهجير من قراهم، مثلما حدث مع الفلسطينيين في رفح والشجاعية وخانيونس. وهناك فروقات بطبيعة الحال: كان الأميركيون ينشطون بعيدًا عن بلدهم. لم تكن قوات "الفيت كونغ" قد هاجمت أميركا ولم تختطف مواطنين أميركيين. ولم تتغذ الحرب في آسيا على التعصب الديني كما هو الحال عندنا.
مع ذلك، وبعد سنة ونصف السنة من الحرب، يبدو أن بنيامين نتنياهو، ويسرائيل كاتس، وإيال زامير يسيرون على خطى الرئيس جونسون، والوزير ماكنامارا، والجنرال ويستمورلاند في الطريق المسدود نفسه. وقد توقف رئيس الوزراء عن تكرار الوعد بتحقيق الانتصار المطلق، وأصبح يعقد الآن آماله على دول بعيدة تستقبل الفلسطينيين وتسمح لإسرائيل بتنفيذ تطهير عرقي في قطاع غزة ("رحيل طوعي"). أما زامير، فيتحدث عن سلفه كقائد خاسر خائب بينما يقدم نفسه كأنه صاحب براءة اختراع الانتصار -لو أتاحوا له فقط فرصة تنفيذ خططه. هذه هي خلفية التغيير في تقديرات الجيش الإسرائيلي حول إنجازاته في قطاع غزة، والتي انقلبت من الحسم، إلى الجمود، فالقفز الموضعي، مع تغيير رئيس هيئة الأركان.
يبدو أن زامير يخاف من الخسائر أكثر من هرتسي هليفي. وبدلاً من عمليات "ابحَث ودَمِّر" من على الأرض، يمتنع الجيش الإسرائيلي عن المخاطرة، ويهاجم نشطاء "حماس" من الجو ويوقع قتلًا ودمارًا هائلين بين الفلسطينيين العزل. وفي المقابل، تقرر "حماس"، مثل "الفيت كونغ"، ما إذا كانت ستقاتل ومتى. وهي تفضل الاختباء، والسيطرة على السكان واستجماع القوة، على أمل أن يفرض دونالد ترامب على نتنياهو وقفًا لإطلاق النار وانسحابًا مقابل الرهائن.
ولكن إذا ما فشلت المفاوضات واستعد الجيش الإسرائيلي مرة أخرى لاحتلال قطاع غزة، فعندئذ يجدر بزامير قراءة كتاب ديان "يوميات فيتنام" قبل أن يصدر الأمر للقوات بـ"التحرك". وبالتأكيد سيكون لديه ما يتعلمه.
*ألوف بن Aluf Benn: صحفي ومحلل سياسي إسرائيلي يشغل منصب رئيس تحرير صحيفة "هآرتس" منذ العام 2011. يعد من أبرز الأصوات في الإعلام الإسرائيلي، ويمتاز بتحليلاته المتعمقة للشؤون السياسية والأمنية في إسرائيل. بدأ مسيرته الصحفية في "هآرتس" في العام 1989، وتدرج في مناصبها حتى أصبح من أبرز كتابها، حيث غطى مواضيع تتعلق بالقيادة الإسرائيلية، وعلاقات إسرائيل الخارجية، وقضايا الأمن القومي. كتب بن أيضًا في صحف ومجلات دولية مرموقة، مثل "نيويورك تايمز" و"فايننشال تايمز" و"فورين أفيرز"، ويعرف بآرائه النقدية للسياسات الحكومية الإسرائيلية، خاصة في ما يتعلق بالصراع مع الفلسطينيين.
0 تعليق