د. وائل كامل يكتب: "صراع القيم التعليمية والتطوير: بين شعارات الذكاء الاصطناعي وأكذوبة التصنيفات"

كشكول 0 تعليق ارسل طباعة تبليغ حذف

في مؤسساتنا التعليمية، من الطبيعي أن يختلف العاملون في رؤاهم وتصوراتهم، فلكل فرد منظومته الخاصة من القيم والمبادئ التي تشكل سلوكه المهني وتفاعله اليومي واحتياجاته. في المقابل، تضع المؤسسة التعليمية قيمًا تنظيمية يُفترض بها أن توحّد الاتجاه، وتُهيئ بيئة عمل يسودها الانسجام وتصب في مصلحة الطالب أولًا وأخيرًا وتحقق حد ادني من الرضا للعاملين بها.

 

لكن الواقع – كما نراه – كثيرًا ما يناقض ذلك. القيم التنظيمية تتحوّل أحيانًا إلى أوامر تُفرض من أعلى، لا تعبّر ولا ترضى التوجه العام للعاملين واحتياجاتهم ولا تنبع من الواقع الحقيقي. والنتيجة؟ حالة من الانفصال بين ما يُكتب على الورق وما يُمارس على الأرض، وبيئة تعليمية مشوشة تعاني من غياب الرؤية المشتركة.

 

هذا الخلل يتضاعف عندما تتخذ "الجودة" و"التطوير" شكلًا ورقيًا لا يمس جوهر العملية التعليمية. ففي التعليم ما قبل الجامعي، ينهك المعلمون في "تستيف" ملفات الجودة واستيفاء النماذج والمستندات، وتعاني المدارس من عجز صارخ في المدرسين والامكانيات، وكأننا نخاطب أوراقًا لا طلابًا. الكفاءة تقاس بعدد الصور والتقارير، لا بمستوى التحصيل أو نمو مهارات التفكير. نُسابق الزمن لإقناع أنفسنا أننا نطوّر، بينما أطفالنا يُحاصرون بمناهج مرّ عليها زمن ولم تعد تلبي احتياجاته، مناهج تتجاهل كل ما طرأ على عقل الطالب وسلوكه ووسائل تواصله، ينظر الي تطويرها بزيادة صعوبتها وتبسيط نظم امتحاناتها.

 

ثم، وبينما نعاني من كل هذا، نسمع في المؤتمرات والخطط الاستراتيجية شعارات براقة: "التحول الرقمي"، "الذكاء الاصطناعي"، و"التعليم من أجل المستقبل". لكن عن أي تحول نتحدث، ولدينا مدارس حتى اليوم تُدرّس مادة الحاسب الآلي على الورق، بلا معمل، بلا أجهزة، ولا كهرباء أحيانًا؟!

 

كيف نطالب طالبًا بدراسة الذكاء الاصطناعي، وهو لم يرَ جهاز كمبيوتر فعليًا في مدرسته؟ كيف نسأله عن مفاهيم معقدة مثل الخوارزميات، وهو ما زال يُسأل: "أين يوجد زر Start في نظام ويندوز؟". المفارقة موجعة، بل مضحكة مبكية. إن إدخال الذكاء الاصطناعي في التعليم ليس قرارًا نكتبه في ملف جودة وتطوير، بل مسار طويل يحتاج إلى معلمين مؤهلين، ومناهج بمستوى راقي وبنية تحتية حقيقية، وبيئة تُدرّب الطالب على أن يفكّر، لا أن يحفظ.

 

وفي الجامعات، الصورة ليست أفضل بكثير. نتحدث عن تصنيفات دولية خادعة ونحتفي بها، في الوقت الذي تُقصى فيه أصوات أعضاء هيئة التدريس من صناعة القرار. تُبنى الخطط بمعزل عن من هم في الميدان، وتُستورد نماذج إدارية من ثقافات أخرى لا تمت لواقعنا بصلة، ثم نفشل في تنفيذها ونتساءل: لماذا لم نجد تأثير لهذا الكم من البحث العلمي الذي ينتج شهريا على تحسين الاقتصاد ونمو صادراتنا وحل مشكلاتنا المجتمعية؟

 

الجواب ببساطة: لأننا نُصر على أن نبدأ من القمة، بينما الأساس هش. نُراهن على الصورة قبل أن نبني المعنى. نُعلن التقدم، بينما الميدان يئنّ، نحول العملية التعليمية لسلعة وبزنس بينما اكثر من ثلث تعداد السكان تحت خط الفقر..

 

إذا أردنا فعلًا تعليمًا حديثًا، فالمطلوب ليس فقط تغيير نظم امتحانات او حذف مواد او تعديل نظام تعليمي من حكومي لخاص او من ثانوي لبكالوريا...، بل تغيير الثقافة وو١ع نظام اختيار قيادات قائم على معايير موضوعيه لافراظ الأكفأ، وصناعة القرار بشكل ديمقراطي. 

علينا أن نعيد الاعتبار للمعلم والاستاذ الجامعي، وأن نوفر بيئة تعليمية حقيقية، وأن نبني القيم التنظيمية بمشاركة من في الميدان، لا بمن هم في المكاتب المكيفه الفخمة. فالتطوير لا يأتي بالشعارات، بل بالإرادة، والمشاركة، والصراحة وتحديد مواطن القوة والضعف.

 

آن الأوان أن نعترف: لا يمكن أن نعلّم أبناءنا الذكاء الاصطناعي في منظومة لا تعرف بعد كيف تُشغّل جهاز كمبيوتر، ولن يشعر المجتمع بدخول جامعة ما في تصنيف ما ولكن سيشعر بدور الجامعة عندما تقدم حلول لمشكلات هذا المجتمع بشكل فعال ويتم تبنيها من قبل صناع القرار.

إخترنا لك

أخبار ذات صلة

0 تعليق