«المسرح» في فنون الأدب العربي

صحيفة عمان 0 تعليق ارسل طباعة تبليغ حذف

(1)

لم يكن الناقد الراحل الدكتور محمد مندور (1907-1965) مجرد ناقد كبير فقط، بل كان أستاذًا ومعلمًا "شارحًا" لنظرية الأدب والمذاهب والأنواع الأدبية، وفق ما تبلورت واكتملت ملامحها في صيغها الأولى الكلاسيكية والرومانسية في الثقافة الغربية، وكان -رحمه الله- من أكثر المهتمين وأشدهم حرصا على تيسير المداخل الضرورية لطلاب الآداب والنقد والفنون التمثيلية، وعلى رأسها فن "المسرح" الذي قدم فيه كتبًا رائدة ورائعة تعد من كلاسيكيات الدراسة الأدبية والنقدية، ولا غنى عنها للطلاب والباحثين وجمهور القراء من غير المتخصصين.

من هنا تأتي أهمية كتاب «المسرح» الذي صدر ضمن سلسلة (فنون الأدب العربي)، وأعادت دار المعارف بعثه ونشره مجددا بعد ما يزيد على ستين عاما من صدور طبعته الأولى؛ وقد طبع مرارا وصار تقريبا المرجع الأول المعتمد لطلاب الدراسات الأدبية والنقدية عموما، وفن المسرح والفنون التمثيلية بشكل خاص.

الكتاب واحدٌ من أهم المداخل التعليمية عن هذا الفن العريق، يقدم فيه الدكتور مندور خلاصة تعريفية مركزة لفن المسرح وتاريخه وتطوره، ويرصد فنون المسرح الشعبية وتنويعاته الأدائية، ثم ينتقل إلى ظهوره في الأدب العربي الحديث، ويوفي القول في نوعيه: المسرح الغنائي، والمسرح النثري، وانتشار فن التمثيل في مصر، واهتمام الدولة بالمسرح -آنذاك- ثم يتوقف وقفات متأنية أمام تطور الأدب التمثيلي، والنتاج المسرحي المؤلف لرواده الأوائل وكتابه الرواد؛ مسرح شوقي، وعزيز أباظة، وتوفيق الحكيم، ومحمود تيمور..

(2)

الكتاب على صغر حجمه (يقع في 124 من القطع الأقل من المتوسط) يقدم مدخلا رائعا ومبسطا دون إخلال بما يجب توفره من مادة أساسية عن "أبو الفنون"؛ خصوصًا وأن محمد مندور قد أمضى تسع سنوات كاملة في فرنسا، تخللتها رحلات عدة إلى اليونان مهد التراجيديا والكوميديا والمسرحيات الأولى في التراث الإنساني.

وقد شاهد عروضًا مسرحية على أكبر مسارح باريس، ورأى بعينيه كيف يمثِّل فن المسرح والمسرحيات ذروة التطور الحضاري والثقافي والإبداعي لأمة من الأمم؛ تجسد همومها ومعضلاتها وتتفنن في تشكيل جماليات الطرح المسرحي؛ بدءا من النص المكتوب في صيغته الحوارية وشخوصه التي تدور بينها الحوارات؛ وصولا إلى تجسيد هذه الصيغ بأكملها على خشبة المسرح.

وقد كان الدكتور محمد مندور (1907-1965) أحد أبرز أعلام الجيل الأول ممن تخرجوا في الجامعة المصرية على يد طه حسين؛ مع سهير القلماوي، ومحمد كامل حسين، ولويس عوض، ونجيب محفوظ.. كما كان بحق واحدًا من أشهر النقاد العرب؛ إن لم يكن قد تربع منفردًا على عرش هذه الشهرة وهذا الذيوع والانتشار طيلة أربعينيات وخمسينيات وحتى رحيله منتصف ستينيات القرن الماضي، فقد تجاوز بحسه الكثير من آفاق النقد الأدبي التقليدية وقدم إبداعه الخاص.

(3)

كانت السنوات العشر التي أعقبت عودة محمد مندور من بعثته إلى فرنسا عام 1939 سنوات خصبة بكل معنى من المعاني، ففي هذه السنوات أصدر مندور مجموعة من الأعمال جعلته -بحق- واحدا من أبرز نقاد ما يسميه جابر عصفور "جيل التحول"؛ ذلك الجيل الذي حاول تجاوز الإطار الليبرالي على المستوى السياسي، وتجاوز الإطار الرومانتيكي "الرومانسي" على مستوى الإبداع، وتجاوز الإطار التقليدي لنظرية "التعبير" الرومانسية على مستوى النقد الأدبي.

ويكفي للتدليل على صحة هذا الرصد أن نشير إلى كتبه المهمة التي صدرت في هذه السنوات العشر (1939-1949)؛ مثل «في الميزان الجديد»، و«نماذج بشرية»، و«النقد المنهجي عند العرب» أو إلى ما ترجمه من «دفاع عن الأدب»، و«منهج البحث في الأدب واللغة»، لندرك خصوبة الإنجاز المتميز الذي قدمه مندور خلال تلك السنوات العشر التي أعقبت عودته من فرنسا.

استهل مندور حياته بدراسة "التراث النقدي عند العرب"، ثم أولى "الشعر" ونقده اهتمامه الكبير، حتى انتقل في أخريات حياته على دراسة "المسرح" والتعمق في درسه وتدريسه وتوسيع رقعة الاهتمام به، نظريا وتطبيقيا، مع التحولات الاقتصادية والسياسية والثقافية التي شهدتها مصر وشهدها العالم العربي منتصف القرن العشرين.

ومن الواضح أن تركيز محمد مندور في أوائل الستينيات على المسرح كان يقوده إلى ما عرف في تاريخ النقد العربي بـ"الواقعية الاشتراكية"، وإلى الإيمان بأن للأدب بوجها عاما ووظيفة سياسية، متصلة باستخلاص القيم المحركة التي تكمن خلف مظاهر التطور الاقتصادي والاجتماعي، والكشف عنها، مما يحوّل هذه القيم إلى قوة إيجابية فعّالة، تتجاوز بالفرد واقعه المتخلف، عندما تثري وعي المتلقي بالواقع، وتدفعه إلى تطويره وتغييره إلى واقع آخر، يقترب من نموذج التطبيق الاشتراكي الذي تصاعدت أعلامه في الستينيات الأولى.

(4)

وكان كتاب «المسرح» آخر ما كتب مندور على وجه التقريب (أو الترجيح)، إذ نشر في عام 1965، وهو العام ذاته الذي توفي فيه محمد مندور. استهل مندور كتابه بالتأكيد على أن علماء الآثار ما زالوا مختلفين حول معرفة المصريين القدماء بالفن المسرحي؛ ومن ثَم ستظلُّ البدايةُ المؤكَّدة للمسرح عند قدماء اليونان (الإغريق)، أما فنُّ المسرح في العالَم العربي فقد برَز منذ منتصف القرن التاسع عشر، على يدِ الرائد الشامي الكبير مارون النقاش الذي يُعَد رائدًا لهذا الفن. وهكذا وبحرفية واقتدار أستاذ متمكن وناقد أريب ومؤرخ أدب بارع أخذ مندور في الكشف عن فن «المسرح» متتبعا نشأة الفنِّ المسرحي وأنواعه وتطوُّره؛ حيث ظهرَت قديمًا فنونٌ شعبية مهَّدت لرَواجِ فنِّ المسرح الحديث بين العامَّة، كما ظهر «المسرح الغنائي» الذي مهَّد له الشيخُ سلامة حجازي. وفي أواخر القرن التاسع عشر ظهر مسرحُ أحمد شوقي، الذي خلَق في "المسرحية الشعرية" مزيجًا بين الدراما التمثيلية والإلقاء الشعري، ثُم ظهر المسرح النَّثري، ومسرح توفيق الحكيم، ثم مسرح محمود تيمور، وأخيرا مشكلات المسرح.

وتَعرَّض محمد مندور بالنقد والتحليل لقضايا أخرى مهمة متعلِّقة بالفن المسرحي؛ تناولها مع مراعاة الترتيب "التاريخي" و"الزمني" على النحو التالي:

المسرح عند قدماء المصريين، المسرح والعرب القدماء، ثم فنون المسرح الشعبية (مثل: حكايات «صندوق الدنيا»، و«خيال الظل»، و«الأراجوز»)، منتقلًا بعد ذلك إلى معالجة المسرح في العالم العربي الحديث، ويمكن اعتبار هذا العنوان هو البداية الحقيقية للكتاب، وما قبله بمثابة المهاد التاريخي للمسرح (جذورًا وروافد).

(5)

يقدم مندور في مقدمته للكتاب تفسيرًا واضحا لاعتماده هذا التقسيم؛ إذ نراه يقول:

"يُثيرُ الحديث عن المسرح العربي عدَّةَ مشاكل أولية لا بد من تصفيتها، وأولى تلك المشاكل تأتي من أن المسرح ليس فنًّا من فنون الأدب التقليدية التي عرفها العرب القدماء، وخلَّفوا لنا فيها تراثًا يشبه ما خلفوه في فنون الأدب الأخرى، كفنون المدح والهجاء والرثاء والغزل والمقامات والخطب، وما إليها من فنون الشعر والنثر التقليدية عند العرب".

على أن هذه الظاهرة، فيما يرى مندور، لا تُعفي المتحدث عن المسرح من البحث عمَّا يمكن أن يكون لهذا الفنِّ من أصولٍ تاريخيةٍ بعيدةٍ عند المصريين القدماء أو عند العرب، بل ولا يعفيه من إيضاح الأسباب التي حالت دون ظهور هذا الفن عند العرب القدماء، أو التي حالت دون أخْذِهم هذا الفن عن اليونان، على نحو ما أخذوا عنهم الفلسفة والمنطق وبعض العلوم عند ازدهار الترجمة في العصر العباسي.

كما أنها لا تعفيه أيضًا من البحث عمَّا يمكن أن تكون قد قامت به بعض الفنون الشَّعبيَّة، مثل فن خيال الظِّلِّ والأراجوز وصندوق الدنيا من تمهيد الشعب المصري خاصة والشعوب العربية عامة لتقبُّل الفن المسرحي، عندما أخذ العرب هذا الفن عن الغربيين ابتداءً من القرن التاسع عشر، وأخيرًا لا تعفيه هذه الظاهرة أيضًا ممَّا يمكن أن تكون قد أحدثته فنون الأدب التقليدية عند العرب من تأثير على فن المسرح، عندما أخذ العرب يترجمون عن الآداب الغربية المسرحيات أو يقتبسونها أو يعربونها ثم يمثلونها فيما أنشئُوا من دور للمسرح، وفي النهاية عندما أخذوا يؤلِّفون هم أنفسهم المسرحيات الشعرية والنثرية..

إخترنا لك

أخبار ذات صلة

0 تعليق