في عالم تتسارع فيه الأزمات وتتقلص مساحات التلاقي؛ جاءت كلمة جلالة الملك المعظم خلال قمة مجلس التعاون الخليجي والولايات المتحدة التي عقدت في الرياض، كوثيقة سياسية وإنسانية عميقة، تحمل في طياتها ملامح الدور البحريني الذي ما فتئ يتمسك بثوابته، رغم تقلبات المنطقة وتغير موازين القوى.
وقد جاءت مضامين كلمة جلالة الملك عاكسةً روح القائد الذي يفهم حساسية اللحظة، فالشكر الذي خص به القيادة السعودية لم يكن مجاملة بروتوكولية، بل اعترافاً ضمنياً بأهمية الدور الخليجي الموحد في لحظة تاريخية تحتاج إلى وحدة الصف أكثر من أي وقت مضى، كما لم يغب عن جلالته التأكيد على عمق الشراكة الاستراتيجية مع الولايات المتحدة الأمريكية، لا بوصفها علاقة ظرفية أو تكتيكية، بل كتقاطع حقيقي بين رؤى وسعي مشترك نحو عالم أكثر توازناً.
لكن اللافت في الكلمة، تلك النبرة الإنسانية التي حضرت بثبات في كل محاورها، فحين تحدث جلالته عن رفع العقوبات عن سوريا، لم يكن يقرأ من ورقة دبلوماسية بل عبر عن رؤية إنسانية تستشعر آلام الشعوب، وترى في الانفتاح والحوار طريقاً بديلاً عن العزل والقصاص الجماعي، في رسالة واضحة بأن الشعوب لا تستحق أن تعاقب بحروب لا تختارها، وأن السلام لا يبنى على الأنقاض بل على الجسور الممتدة بين الأطراف.
وقد وضعت كلمة جلالته القضية الفلسطينية في قلب الأولويات، بإيمان صادق بحل الدولتين، وخيار وحيد للعدالة وإطار لاستعادة التوازن الإنساني والسياسي في منطقة أنهكتها الوعود المؤجلة، وفي هذا الطرح ما يعكس اتساق البحرين مع المبادئ وهي التي احتضنت سابقاً «دعوة السلام» في قمة المنامة، لتثبت اليوم أنها لا تغير خطابها تبعاً للمصالح، بل تبني خطابها من منطلق القيم.
الملك لم يترك الحديث عن إيران دون أن يمرره من بوابة الأمل، والرهان على نجاح التفاوض، وفي خضم هذا التوازن يبرز جوهر السياسة البحرينية؛ الواقعية بلا تشنج والانفتاح دون تهاون.
ومما لا يمكن تجاهله، هو تأكيد جلالة الملك على شراكة المملكة العريقة مع الولايات المتحدة، والمتمثلة بالتعاون العسكري والأمني عبر الأسطول الخامس، وهو تذكير بأن البحرين ليست مجرد دولة صغيرة تتلقى تأثيرات الجغرافيا، بل طرف فاعل في حفظ الأمن البحري والإقليمي، يؤمن أن أمن الملاحة هو أحد مفاتيح استقرار الاقتصاد العالمي.
تعود في نهاية الكلمة روح البحرين المتفائلة دائماً؛ روح تحلم بمستقبل مزدهر، وتنظر للتكامل الخليجي كدرع واقٍ، لا من أجل صد الأخطار فقط، بل لبناء منظومة تنموية حقيقية تحقق الرخاء لشعوبها.
وحين يتحدث جلالة الملك عن زيادة الاستثمارات وتعزيز التبادل التجاري مع الولايات المتحدة، فإنه يربط السياسة بالاقتصاد، ويرى أن الشراكة لا تكتمل دون أن تمس حياة الناس إيجابياً.
كلمة جلالة الملك لم تكن عرضاً تقليدياً لمواقف البحرين، بل كانت انعكاساً صادقاً لهوية بلد صغير بحجمه كبير بمبادئه. بلد يرفض الانجرار إلى صراع لا يختاره، ويتمسّك بسياسة اليد الممدودة.
في زمن التصعيد، اختارت البحرين أن تكون صوت التعقل، وأن تقول كلمتها بهدوء الملوك وثبات القيم.
0 تعليق