تمثل الحوكمة الرشيدة في المنظمات غير الربحية حجر الزاوية في بناء مؤسسات فعّالة وشفافة وقادرة على تحقيق أثر اجتماعي مستدام. فمع التنامي المتسارع لدور هذه المنظمات في تلبية احتياجات المجتمعات وتعزيز التنمية الشاملة، أصبحت ممارسات الحوكمة ضرورة استراتيجية وليست خياراً تنظيمياً.
تعني الحوكمة، في جوهرها، مجموعة من العمليات والهياكل التي يتمّ من خلالها توجيه المنظمة ومراقبتها، بما يشمل تحديد المسؤوليات والصلاحيات، وصياغة السياسات، وتقييم الأداء المؤسسي، وضمان التزام المؤسسة برسالتها وقيمها الأساسية.
ويؤدي مجلس الإدارة دوراً محورياً في هذا السياق، إذ يقع على عاتقه الإشراف على التوجّه الاستراتيجي، وضمان النزاهة المالية، وتقييم كفاءة الإدارة التنفيذية.
تشير بيانات مؤسسة كوميونيتي وورك (Community Wealth Partners, 2023) إلى أن المنظمات غير الربحية التي تطبّق أنظمة حوكمة فعّالة تحقق أداءً مالياً أعلى بنسبة 25% مقارنةً بالمنظمات التي تفتقر إلى هذه الممارسات.
وفي تقرير صادر عن Standards for Excellence Institute، تبيّن أن المؤسسات التي تلتزم بمعايير الحوكمة تحقق معدل احتفاظ بالمانحين بنسبة 73%، مقابل 45% فقط في المؤسسات ذات الحوكمة الضعيفة.
على الصعيد العربي، تؤكد دراسة صادرة عن المركز الإقليمي لتطوير المجتمع المدني (2022) أن 58% من المنظمات غير الربحية في المنطقة تعاني من غياب سياسات واضحة للحوكمة، مما ينعكس سلباً على قدرتها في جذب التمويل وتعزيز الشراكات المؤسسية.
وفي المقابل، تظهر تجربة «مؤسسة الملك خالد الخيرية» في المملكة العربية السعودية كأنموذج ناجح في ترسيخ الحوكمة المؤسسية، من خلال تبنّي هيكل تنظيمي واضح، وتفعيل لجان متخصّصة، واعتماد تقارير شفافة سنوية تخضع لمراجعة خارجية مستقلة.
تشمل المبادئ الأساسية للحوكمة الرشيدة:
• الشفافية: عبر الإفصاح عن البيانات المالية، والأنشطة، وتفاصيل المشاريع.
• المساءلة: من خلال تحديد الأدوار والمسؤوليات ومراقبة التنفيذ.
• العدالة: في تمثيل أصحاب المصلحة داخل الهيئات الحاكمة.
• الفعالية: من خلال تقييم الأداء واتخاذ قرارات مبنية على البيانات.
• الاستجابة: عبر التفاعل مع احتياجات المجتمع والتكيف مع التغيرات.
علاوة على ذلك، تُعد الرقابة المالية والامتثال التنظيمي من الركائز المهمة في الحوكمة. إذ تؤكد دراسة لـGrant Thornton (2021) أن 81% من المؤسسات غير الربحية التي تخضع لمراجعة مالية مستقلة سنوياً تتمتع بثقة أعلى من الجهات المانحة، مقارنة بـ42% فقط للمؤسسات التي لا تعتمد هذا الإجراء.
في ظل بيئة تشريعية ومجتمعية تتجه نحو مزيد من الاحترافية والرقابة، لابد للمنظمات غير الربحية من الاستثمار في تطوير أنظمتها الحوكمية، بما في ذلك تدريب مجالس إدارتها، وتحديث لوائحها الداخلية، وتفعيل أدوات تقييم الأداء المؤسسي.
إن الحوكمة ليست مجرد أداة تنظيمية، بل تمثل بوصلة استراتيجية تضمن بقاء المنظمة على المسار الصحيح، وتعزّز من مصداقيتها، وتوسّع من قدرتها على تحقيق أثر ملموس ومستدام في المجتمع.
0 تعليق