تونس- شهدت أيام قرطاج السينمائية تسليط الضوء على السينما الأردنية القصيرة من خلال مجموعة من الأفلام التي تعكس تنوع القضايا والموضوعات، وذلك ضمن قسم "سينما تحت المجهر"، حيث برزت ثلاثة أفلام أردنية بأسلوبها الفريد وبصماتها الإخراجية المميزة، حيث نجحت في المزج بين المحلي والإنساني في طرح موضوعات تتناول الصراعات الداخلية، الهوية، والعلاقة مع البيئة والمجتمع.
صناع هذه الأفلام الأردنية القصيرة يشتركون في تقديم رؤى مبدعة تتحدى المألوف وتعالج موضوعات ذات طابع عالمي مع الحفاظ على جذورها المحلية. سواء كان ذلك من خلال رمزية الصحراء، الصراعات العائلية، أو القضايا المجتمعية، فإن هذه الأعمال تسلط الضوء على قوة السينما الأردنية كوسيلة تعبيرية قادرة على طرح أسئلة صعبة وإثارة النقاشات العميقة.
الحرش.. صراع الأخوة
فيلم يعيد إحياء قصة قابيل وهابيل بلمسة معاصرة تسلط الضوء على الخلافات العائلية والصراعات النفسية، من خلال أجواء الريف الأردني، إذ يعكس المخرج فراس الطيبة البعد الرمزي للصراع الإنساني الأول وتأثيره المستمر عبر الزمن.
يروي "الحرش" حكاية أخوين مختلفين تماما عن بعضهما البعض، يُجسد دورهما خالد الغويري وعدي فواز. يجتمعان بعد غياب طويل لدفن والدهما في بيئة ريفية معزولة. الأخ الأكبر، الذي غادر قريته بحثا عن حياة أفضل في العاصمة، يجد نفسه في مواجهة أخيه الأصغر الذي بقي بجانب والده، يعمل في الأرض ويتحمل المسؤوليات. بينهما تتصاعد التوترات لتكشف عن طبقات من الألم والمرارة التي تضرب بجذورها في الماضي.
رغم أن فكرة الصراع بين الأشقاء ليست جديدة، إلا أن الطيبة ينجح في تقديمها برؤية مبتكرة. يستلهم الفيلم قصة قابيل وهابيل ليُضفي عمقا أسطوريا على صراعات معاصرة. الأخوان، كلاهما ضحية للرأسمالية الحديثة بطرق مختلفة، يمثلان تناقضات الحياة المعاصرة: الهروب من الجذور مقابل التمسك بها، الطموح الفردي مقابل الالتزام العائلي. هذا التناقض يُبرز الصراع الداخلي بينهما، حيث لا تنحصر مشكلتهما في الماضي فقط، بل تمتد إلى الحاضر المعقد.
اختار الطيبة، البرية خلفية لأحداث الفيلم، حيث تصبح الطبيعة امتدادا للغرائز البشرية البدائية. المشاهد القاحلة تُبرز العزلة التي تعيشها الشخصيات، وتُعيدها إلى جوهرها الأساسي بعيدا عن التشويش الحضري. في هذا الفضاء المفتوح، تتجلى مشاعر الغضب واللوم والضعف الإنساني، مما يجعل كل حوار وكل حركة تُبرز الثقل العاطفي الكامن في القصة.
"الحرش" يعتمد بشكل كبير على التكوين البصري. الكاميرا تُركز على التفاصيل الصغيرة: تعابير الوجوه، اليدين المتشنجتين، والأفق الذي يرمز إلى المستقبل المجهول.
مع ذلك، وتيرة السرد التي تميل أحيانا إلى البطء، مما قد يضعف تفاعل بعض المشاهدين. كما أن اعتماد الفيلم على الرمزية قد يعقد الفهم لدى جمهور أقل إلماما بالخلفية الثقافية أو الرمزية الدينية للقصة.
وكان الفيلم قد فاز بجائزة السوسنة السوداء لأفضل فيلم عربي قصير مناصفة مع فيلم وذكرنا وأنثانا بالدورة الخامسة من مهرجان عمان السينمائي بدورته الخامسة.
"ترويدة".. رحلة في أعماق الصحراء والذات
"ترويدة"، الفيلم الأول للمخرجة موني أبو سمرا، هو مزيج درامي وشعري يقدم تجربة سينمائية فلسفية تتجاوز حدود الزمان والمكان. يروي الفيلم قصة جيولوجية شابة تجد نفسها وحيدة في الصحراء الشاسعة بعد حادث فيضان مميت أودى بحياة زملائها أثناء قيامهم بمسح جيولوجي للمنطقة. هذه الحادثة المؤلمة، الناتجة عن أمطار ومضية بسبب التغير المناخي، تدفع البطلة إلى مواجهة أزمتها الوجودية في قلب الطبيعة القاسية.
تجد البطلة نفسها في عزلة تامة، وسط صحراء أصبحت شاهدة على صراعها الداخلي. الصحراء هنا ليست مجرد مكان، بل هي شخصية مستقلة تعكس قسوة الطبيعة وهشاشة الإنسان. مع استمرار رحلتها، يظهر مسافر غامض، يجسد دور المحفز لتحولاتها النفسية. يقدم لها هذا المسافر أحجية غامضة تحمل معاني عميقة عن الحياة والموت، مما يدفعها للتفكير في مصيرها وخياراتها. العلاقة بينهما تظل مشحونة بالغموض والتوتر، فيما تبرز في الخلفية ذكرى "الترويدة"، وهي أغنية كان يغنيها والدها لها قبل النوم، والتي تصبح رمزا للأمل والخلاص.
"ترويدة" يمتاز بتصويره البصري حيث تُبرز الكاميرا تفاصيل الصحراء بكل جمالها وقسوتها: الرمال المتحركة، السماء الواسعة، والصخور التي تبدو كأنها شاهدة على أبدية الزمن. الإضاءة الطبيعية تلعب دوراً محورياً في نقل الحالة النفسية للبطلة، حيث تعكس الشمس الحارقة يأسها، بينما يرمز ضوء القمر إلى الأمل والسلام الداخلي.
الموسيقى التصويرية للفيلم تضيف بعدا عاطفيا عميقا من خلال المزج بين الأصوات الطبيعية مثل الرياح والرمال. الصمت، الذي يتخلل العديد من المشاهد، يصبح أداة تعبير قوية تعكس وحدة البطلة وعمق أفكارها. الأغنية التراثية "الترويدة" تلعب دورا محوريا في القصة، حيث تستدعي البطلة كلمات والدها في لحظة اعتقادها بأنها على وشك الموت، مما يمنحها دفعة للتشبث بالحياة.
الصحراء في "ترويدة" ليست مجرد خلفية للأحداث، بل تمثل عالما داخليا يعكس صراعات البطلة مع ذاتها. الفيضانات المفاجئة، التي دفعتها إلى هذا الوضع، ترمز إلى القوى الخارجة عن السيطرة مثل التغير المناخي، مما يُبرز هشاشة الإنسان أمام الطبيعة. العلاقة مع المسافر الغامض تضيف بُعداً آخر للقصة، حيث يمكن اعتباره رمزا للندم، أو الحكمة، أو حتى الموت ذاته.
وفي لحظة حاسمة، وبينما تبدو البطلة على وشك الاستسلام لقوى الطبيعة، يظهر راع ليُنقذها، وكأن القدر قرر التدخل في اللحظة الأخيرة. هذه اللحظة تُبرز فكرة أن الأمل قد يأتي من أبسط الأشياء، وأن النجاة ليست فقط جسدية، بل نفسية وروحية أيضا.
رغم تقديم "ترويدة" تجربة بصرية وفلسفية استثنائية، قد يجد بعض المشاهدين أن إيقاع الفيلم بطيء للغاية، مما قد يُعقد تفاعلهم مع السرد الرمزي.
"وذكرنا وانثانا".. صراع التقاليد وقيم الإنسانية
في فيلمه "وذكرنا وانثانا"، يقدم المخرج أحمد اليسير رؤية جريئة ومؤثرة تتناول القضايا الإنسانية في ظل التعقيدات الاجتماعية في العالم العربي. يروي الفيلم قصة عائلة تواجه معضلة تتعلق بتقاليد دفن الموتى، مما يفتح الباب لنقاش عميق حول القيم، الهوية، والعلاقات الأسرية في مواجهة الضغوط المجتمعية.
وبطريقة تتسم بالحساسية والواقعية، يعالج الفيلم الصراعات الداخلية التي تواجه الشخصيات، حيث يتحدى الأب، الذي يجسد دوره الفنان كامل الباشا، العادات المتوارثة لضمان تكريم فقيدهم بالطريقة التي تليق بكرامته الإنسانية. أما الأم، التي تؤدي دورها شفيقة الطل، فتجد نفسها ممزقة بين رغبات الأسرة والالتزام بما تؤمن به.
"وذكرنا وانثانا" ليس فقط انعكاساً للصراعات الشخصية، بل هو استكشاف لدور التقاليد والدين في تشكيل قرارات الأفراد. اضافة اعلان
0 تعليق