الأحد 22/ديسمبر/2024 - 07:12 م 12/22/2024 7:12:41 PM
فى زيارة خاطفة إلى بلدتى الزرقا بمحافظة دمياط، وجدت نفسى أقف متسمّرًا أمام منزل المفكر الكبير الدكتور فرج فودة، رحمه الله، الذى ولد عام ١٩٤٥، واغتالته جماعة الإخوان الإرهابية فى عام ١٩٩٢.. لدقائق معدودات وجدت نفسى يدور بخلدى حديث طويل، عندما كنا طلابًا فى الجامعة، ونحرص كل الحرص على لقاء فرج فودة والاستماع إليه وحديثه المبدع والرائع عن الدولة المدنية الوطنية، ورفضه الشديد لأى مشروع دينى يحكم البلاد، أو بمعنى أوضح رفضه القاطع للدولة الثيوقراطية.
وفى هذه اللحظات التى سرح فيها عقلى تذكرت الرؤى الشديدة التى كان يحرص عليها فرج فودة، وهى فصل الدين عن الدولة... فالدولة الوطنية المدنية لا علاقة لها أبدًا بتوجهات دينية وما شابه ذلك. وقلت لنفسى: يرحمك الله أيها المفكر العظيم، فقد رحل جثمانك ولم تر ما حدث فى أحداث يناير ٢٠١١، ولم تر جماعة الإخوان الإرهابية تعتلى سدة الحكم فى غفلة من الزمن لمدة عام. وقلت لنفسى أيضًا: لو أنك موجود، لكنت أول الرافضين لحكم الدولة الدينية، وعلى رأس جموع المصريين الذين انتفضوا فى ٣٠ يونيو ليغيروا هذا الواقع الأليم. وللحق أقول إن المفكر الكبير فرج فودة كان سابقًا لعصره وزمانه وأوانه فى كل الرؤى التى طرحها وزرعها فينا، من خلال ندواته، ومن خلال كتبه العظيمة التى تناولت الدعوة إلى الدولة المدنية الحديثة البعيدة تمامًا عن أى توجه دينى. فإن الدين لله والوطن للجميع.
والحقيقة فإن الدولة الدينية، التى تقوم على أساس دمج الدين فى شئون الدولة، تعد نموذجًا مزعجًا يحمل فى طياته العديد من المساوئ والتحديات. من أبرز هذه المساوئ تقييد الحريات الفردية، حيث يصبح الدين أداة للسيطرة على السلوكيات الشخصية والمعتقدات، ما يولِّد سياسة التهميش للمختلفين فكريًا. كما أن هذا النموذج يعوق التقدم العلمى والتطور الفكرى، إذ يتم تقييد البحث العلمى والتفكير النقدى بما يتوافق مع تفسيرات دينية محددة، إضافة إلى ذلك، غالبًا ما تترافق الدولة الدينية مع الصراعات الدينية والطائفية، حيث يتم استغلال الدين لتحقيق مكاسب سياسية وتوسيع النفوذ، فيتزعزع الاستقرار الاجتماعى وتقوّض الوحدة الوطنية. علاوة على ذلك، فإن ارتباط الدين بالدولة يجعل من الصعب فصل الدين عن السياسة، ما يسهل تسييس الدين واستخدامه لأغراض حزبية ضيقة. وعلى الرغم من أن بعض المؤيدين للدولة الدينية يرون أنها تضمن الأخلاق والقيم الدينية فى المجتمع، فإن النقد الموجه لهذا النموذج يشير إلى أن الأخلاق والقيم لا تتطلبان بالضرورة وجود دولة دينية، بل يمكن تحقيقها من خلال تربية المواطنين على القيم الإنسانية المشتركة واحترام الآخر. فمن خلال ربط الدين بالسياسة، يسعى أصحاب هذه الرؤية إلى فرض قيم دينية معينة على جميع أفراد المجتمع، ينتج عنها تقييد الحريات الشخصية والفكرية. فالحق فى حرية العقيدة والتعبير الذى يعد حجر الزاوية فى أى مجتمع ديمقراطى يتعرض للانتهاك فى ظل هذه الأنظمة، حيث يتم قمع الأصوات المعارضة وتكميم الأفواه. كما أن الدولة الدينية تفرض قيودًا على سلوك الأفراد، وتحدد معايير الأخلاق والسلوك العام بناء على تفسيرات دينية محددة، ما يهدد الخصوصية والحياة الشخصية للأفراد. وهذه الأنظمة تستخدم الدين كأداة للسيطرة والتلاعب بالمجتمع، من خلال تبرير السياسات القمعية والظالمة باسم الدين، كما أن الدولة الدينية لها مخاطر جسيمة تهدد الحريات العامة والتقدم الاجتماعى، وتزيد من حدة الصراعات والانقسامات المجتمعية.
وقد شهدت مصر فى عام ٢٠١٢، بعد أحداث يناير ٢٠١١، تحولًا غير مسبوق بتولى جماعة الإخوان الإرهابية مقاليد الحكم. إلا أن هذا التحول سرعان ما تحول إلى كابوس حقيقى، حيث اتضح أن الجماعة غير مؤهلة لإدارة شئون الدولة. فبدلًا من تحقيق آمال الشعب فى الحرية والعدالة والتنمية، عانت البلاد من تدهور حاد فى مختلف المجالات. فقد شهد الاقتصاد تراجعًا حادًا، وارتفعت معدلات البطالة والفقر، وتدهورت الخدمات العامة، وازداد الانقسام المجتمعى والسياسى. كما اتسم حكم الإخوان بالاستقطاب والعنف، حيث شهدت البلاد موجة مذابح وتخريب لكل مؤسسات البلاد، وسقوط العديد من القتلى والجرحى. وعلى الصعيد السياسى، اتسم حكم الإخوان بالتركيز على أجندة دينية ضيقة، ما أدى إلى تهميش القوى السياسية الأخرى وإضعاف المؤسسات الدستورية، كما اتسمت سياستها الخارجية بالتشدد والتطرف، ما أثر سلبًا على العلاقات المصرية مع الدول العربية والأجنبية. وفى المجال الاجتماعى، فرضت الجماعة قيودًا على الحريات الشخصية، خاصة على المرأة والأقباط، ما أثار حفيظة الكثير من المصريين. ونتيجة لهذه الأوضاع المتدهورة، فقدت جماعة الإخوان شرعيتها الشعبية، فاندلعت ثورة ٣٠ يونيو التى أطاحت بحكمها. ويمكن القول إن تجربة حكم الإخوان فى مصر كانت تجربة فاشلة بكل المقاييس، حيث أثبتت أن الجماعة غير قادرة على إدارة دولة كبيرة مثل مصر، وأن مشروعها السياسى يمثل تهديدًا خطيرًا على استقرار البلاد ووحدتها.
وقد ازداد ترحمى على المفكر العظيم فرج فودة الذى سبق بفكره الكثيرين وحرصه الشديد على الدولة المدنية الحديثة التى تؤسس لها مصر حاليًا، وحققت من أجل ذلك الكثير والكثير. وطوبى لفرج فودة وأمثاله السائرين على خطاه حتى الآن.ش
0 تعليق