اشتياقا لتيريز

الغد 0 تعليق ارسل طباعة تبليغ حذف

لو أن تيريز هلسة ما تزال بيننا، لكنّا سنحتفل بعيد ميلادها الواحد والسبعين بعد أيام قليلة. لكن تيريز، التي ملأت الدنيا وشغلت الناس في زمان مضى، حين اختطفت طائرة وحطّت بها في مطار اللد في العام 1972، لتغدو واحدة من أشهر النساء العربيات اللاتي اختبرن عذابات الاعتقال، فالتحرير عبر صفقة لتبادل الأسرى، فالمواجع الوجدانية التي لم تنفكّ تلاحقها حتى أيامها الأخيرة، رحلت، من دون جنازة مهيبة تليق بتاريخها؛ ذلك أن الوفاة حدثت إبّان ذروة وباء كورونا.اضافة اعلان
كانت هلسة، الأم لثلاثة أبناء، تبرع في التحليل النفسي؛ إذ يكفي أن تزورها في مكتبها، الذي كان يتسع بالكاد لاثنين معاً، في دائرة شؤون الوطن المحتل (منظمة التحرير الفلسطينية في جبل الحسين)، لتشهد تحليلها كلّ كلمة تتناهى لسمعها من الغرفة المجاورة.
لم تكن تلك الغرفة المجاورة عادية؛ إذ كانت تغصّ، يومياً، بثلّة من المقاتلين الفلسطينيين القدامى الذين يستحضرون الثورة الفلسطينية. كانت تقول إنّهم ما يزالون في حالة إنكار، ولم يهضموا بعد فكرة أنّ سامر الثورة قد انفضّ، وأنّ قعقعة السلاح التي كانوا يغرقون بها ولّت إلى غير رجعة. لذا، بقيت هلسة تصرّ على إبقاء هذه الغرفة مشرعة للمقاتلين. كانت ترى بأن لا ملاذ لهم ليتحدثوا عن تلك الحقبة إلا في مقر منظمة التحرير الفلسطينية، التي سعت مراراً لإغلاق دائرة شؤون الوطن المحتل في عمّان؛ تقليصاً للنفقات.
لتيريز مع قدامى المقاتلين صولات وجولات. كانت تهجس بسلامتهم وبتأمين عيش كريم لهم. كان برفقتها على الدوام زميلها الأسير المحرّر، نسيم عبد الجليل، الذي اشترى السيارة التي تقلّهما من ثمن ذهب والدته، وحين هُدِمَت بناية دائرة شؤون الوطن المحتل في جبل الحسين كان يمكن أن يصبحا والمقاتلين القدامى على قارعة الطريق، لولا أن تبرّعت لهما إحدى النساء الخيّرات بأجرة عام، فاستأجرا مكاناً جديداً في جبل الحسين.
في واحدة من الجولات، رافقت تيريز. رأيت السبعيني عبد القادر المحاميد يتدثر بأغطية عدة، فيما هو مستلقٍ في بيته في جبل الجوفة، في عمّان، يشير بيديه، اللتين تفترشهما القروح، لصورة الرئيس الفلسطيني الراحل ياسر عرفات، المعلّقة على الجدار قبالته، ليبدأ حديثاً غير مفهوم الملامح يراوح بين الهمهمات والهتافات. ربّتت تيريز على يديه وأراحتهما إلى جانبه، لتقول إنه يتحدث عن القِتال في بيروت؛ إذ كان مقاتلاً في الصفوف الأولى للثورة الفلسطينية.
مضيت يومها مع تيريز لنتفقد إبراهيم سلامة، الذي يرقد على أحد أسرّة مشفى جيش التحرير الفلسطيني في جبل الحسين، منذ ما يقارب ثلاثة عقود، بعد أن أصيب بالشلل الرباعي جرّاء إطلاق رصاص تعرّض له في لبنان، حين التحق بالثورة مقاتلاً، مودّعاً عائلته الفلسطينية في الكويت.
لم يكن المحاميد وسلامة الوحيدَين اللذين كانت تتفقدهما هلسة شهرياً، لتأمين احتياجاتهما؛ إذ كانت تشغل منصب رئيسة جرحى فلسطين في الأردن والشتات، تحت مظلة منظمة التحرير الفلسطينية.
رحلت تيريز، ورحل المحاميد، ورحل سلامة، ورحل كثر ممن كنت أراهم في جولاتي التفقدية مع تيريز، الكركية الفلسطينية، التي كانت تحتضنني بقوة حين أزورها في منزلها الأول في شارع المدينة الطبية ومن ثم في أبو نصير، معطية إياي في مرات البيض الملوّن الذي تتفنن في صباغته. 
لو أن الزمن يجود عليّ بلقاء مع تيريز هلسة؛ لنهنأ بحديث طويل، ولنطفئ معا شمعة عيد ميلادها.
إخترنا لك

أخبار ذات صلة

0 تعليق