كنتُ سأشارك فـي «منتدى المرأة فـي التشريع والتطبيق القضائي»؛ الذي أقامته جامعة مسقط بمحافظة مسقط، بدعوة ممن يعز عليّ رفض طلبه؛ وهو الصديق القاضي خليفة بن سيف الهنائي، فوجدتها فرصة بأن أتحدث عن جانب من رؤيتي لحقوق المرأة، بيد أن الوضع حال دون مشاركتي. المقال.. يلقي ضوءًا على مسألة حقوق المرأة ما قبل تشريعها.
لباس المرأة.. فـي عالمنا الإسلامي أثار جدلًا عريضًا فـي المنظومة الفقهية التقليدية، فكتبت عام 2010م مقالًا بعنوان «لباس المرأة.. ما قبل حقوقها»، حينها دار نقاش حول اللباس فـي أحد منتديات الحوار الإلكترونية قبل أن تحل محلها نوافذ التواصل الاجتماعي، أكدت فـيه بأن اللباس من هُوية المرأة التي ينبغي أن تدخل ضمن حقوقها؛ لأنه ليس شيئًا زائدًا كالزينة، وإنما هو أصيل فـي كينونتها.
إن لباس المرأة حق طبيعي، وقرار تتخذه بنفسها، خاضع لمبدأ التدافع الاجتماعي، وينبغي أن يحظى بنقاش أخلاقي وفلسفـي، فهو يأتي ضمن منظومة ذات أبعاد حضارية واجتماعية، أسمى من كونه تقليدًا للغرب الذي وصل إلى حد الابتذال، وأبعد أن يكون ورقة سياسية للتنافس بين الأحزاب، ومع ذلك؛ شكّل لدى المسلمين صراعًا سياسيًا فـيما عرف بـ«معركة الحجاب». ففـي تركيا.. ضمّنه كمال أتاتورك (ت:1938م) استراتيجيته فـي علمنة الدولة الجديدة بعد حله الخلافة العثمانية، بدعوة النساء إلى خلعه، ثم حظرته الحكومة العلمانية عام 1984م، ثم استعمله رجب أردوغان فـي دعايته لحزبه الإسلامي عام 2007م برفع الحظر عنه. وفـي مصر.. كانت البداية عندما أصدر قاسم أمين (ت:1908م) كتابه «تحرير المرأة»؛ بضغط من أميرة القصر الخديوي نازلي فاضل (ت:1913م)، ثم تحولت القضية إلى مناكفة بين حركات الإسلام السياسي ومناوئيهم العلمانيين. وفـي تونس.. عمل الرئيس الحبيب بورقيبة (ت:2000م) على مواجهة الإسلام السياسي بتشريع حظر الحجاب. وفـي إيران.. إبان ثورتها الإسلامية كان الحجاب من أدوات المتظاهرين لإزاحة نظام الشاه عام 1979م، ويعاني الآن النظام الإسلامي من حركة معارضة للحجاب. ودول الخليج أيضًا استعملت الحجاب فـي أوراقها السياسية، والآن تشهد انقلابًا عليه. لقد دخلت جميع حقوق الإنسان فـي عالمنا الإسلامي فـي دائرة الصراع السياسي، وما ذكري للباس المرأة إلا مثال لكونه يمثّل إثارة اجتماعية من السهل على السياسي أن يستغله.
وبعد.. فـيقال «حقوق المرأة» ولا يقال «حقوق الرجل» -بغض النظر عن وجود حركات هامشية تنادي بحقوقه- كأن حقوقه متقررة بالأصل، وإلا لِمَ لَمْ يُكتفَ بـ«حقوق الإنسان»! إن إضافة الحقوق إلى المرأة تُعد إشكالًا اجتماعيًا وقانونيًا وسياسيًا.. بل إشكالًا فـي حقها الطبيعي، فالمرأة.. تُذكر باستحضار الرجل، فهو «المرجعية القيمية» لها باعتباره معيارًا على الواقع؛ سواءً السياسي أم الاجتماعي أم الاقتصادي أم الأخلاقي، فمثلًا؛ ليُدلَّل على عدم قدرتها على إدارة الشأن السياسي، يُستدعى عدم امتلاكها قدرات الرجل، بما فـي ذلك عقلها؛ فهي أنقص منه عقلًا وأضعف رشدًا، وهذا لا يتوجه للثقافة الإسلامية فحسب، فضعف تولي المرأة الشأن السياسي تعاني منه كثير من المجتمعات؛ بما فـيها أمريكا، فهي حتى اليوم لم تحكمها امرأة؛ وخسرت الانتخابات مرتين أمام ترامب.
إن المرأة غالبًا لم تُقرَّر حقوقها نتيجة نضالها، وإنما الجدل الفلسفـي هو الذي أحدث وعيًا بذلك.. بل إن منظومة الحقوق التي قررت حقوقها بناها الرجل. هذا الإشكال الفلسفـي لا يخفق بجناحيه فـي سماء التجريد، وإنما يسعى على أرض الواقع، فالمرأة.. عمليًا تابعة للرجل. عندما تقرر البشرية أن حقوق الإنسان واحدة لا تتجزأ إلى حقوق امرأة وحقوق رجل، وهي الحقوق الطبيعية التي منحها الله للإنسان تكوينًا، حينها تكون قد تخلّصت المرأة من معيارية الرجل القيمية، وأصبحت الحقوق الطبيعية ذاتها معيارًا لهما معًا.
هذا لا يعني إلغاء المرجعية الدينية للحقوق، فنحن البشر لا نتعامل مع قضايا الاجتماع مجردة من خلفـيتها المعرفـية وحاضنتها الاجتماعية، فالغرب.. وهو يفرض منظومة حقوق الإنسان؛ لديه مرجعيته وهي «النظرية المعرفـية العلمانية»، ولذا؛ عندما نريد أن نبني منظومة لحقوق الإنسان فعلينا أن نضعها بناءً على نظريتنا المعرفـية الإسلامية، فالمنطق الحضاري.. يلزمنا أن نعود إلى ثقافتنا، وهذا لا يكون إلا بعد التأسيس الأخلاقي، وهو تأسيس دعا إليه الإسلام قبل إن يقرر أحكامه التفصيلية.
فإن قلتَ: نحن ندين بالإسلام منذ مبعث رسوله الخاتم.. فلماذا بعد هذه القرون الطوال نناقش مسألة حقوق المرأة؟
قلتُ: المشكلة ليست فـي تقرير هذه الحقائق، فهي -على حد تعبير الفقهاء- (من المعلوم من الدين بالضرورة). وإنما المشكلة فـي النظرية المعرفـية التي استنبطتْ أحكامنا وبرمجتْ مجتمعاتنا وصنعتْ ضمائرنا. فالإسلام.. تنزيل إلهي، وإنما إنزاله على الواقع شأن بشري، خاضع للنظرية المعرفـية التي تقرر أحكامه، فهي التي جمّدت الاستنباط وحجرت إعادة النظر فـي الأحكام الفقهية. ولأن موضوع الحقوق شأن قانوني، والقانون نَبَتَ من الاجتماع ولأجله، فهو متغيّر بالضرورة، ولذلك؛ قال الفقهاء: (تتغيّر الأحكام بتغيّر الزمان والمكان). ولأن الأحكام لا تصدر إلا عن نظرية معرفـية فعلينا إعادة النظر فـيها.
لنأخذ مثالًا ميراث المرأة، لا أتحدث عن منعها من حقها فـيه، أو التحايل عليه أو على بعضه، فهذه مسألة تختص بالقضاء وتنفـيذ أحكامه، وحرمانها منه يرجع إلى المجتمع ووضعها فـيه. ذات أمسية رمضانية.. وبعد أن نقدتُ النظرية المعرفـية لدى المسلمين سألني المحاوِر: ما تقول فـي ميراث المرأة؟ -ويقصد الجدل الدائر الآن فـي الفكر الإسلامي- هل تأخذ نصف ما يأخذه شقيقها الرجل، أم تأخذ بالتساوي معه؟ كان المحاوِر ينتظر مني إجابة حاسمة؛ بنعم أو لا. فجاءت إجابتي بأن الأحكام لا تقرر هكذا، وإنما وفقًا لمرجعيتها، وسؤالك لا توجد حتى الآن نظرية للجواب عليه إلا وفق النظرية التقليدية.
إن إحدى معضلاتنا الحضارية إننا نحل مشاكلنا المعاصرة بأدوات قديمة، كأن الزمن لا أثر له. ورغم أن المشرعين المسلمين أدركوا ذلك مبكرًا، إلا أن نظريتهم المعرفـية لم تتطور، وظلت يُنتَج بها الأحكام حتى اليوم، كما أنها ما زالت تُدرَّس فـي الجامعات، وهذه معضلة أخرى فـي حقلنا الأكاديمي، فبدلًا أن يكون الرائد فـي التغيير؛ أصبح هو القالب الصلب الذي ينتج الجمود. بنظري؛ أن نظريتنا المعرفـية التقليدية انتهت صلاحيتها، ولا ينبغي أن نستنبط بها الأحكام، لكن لا توجد حتى الآن نظرية معرفـية جديدة.
لقد مرَّ الفقه الإسلامي بمرحلتين:
- النظرية المعرفـية النبوية.. كانت ديناميكية، تصدر أحكامها وفقًا لمصالح الناس والآيات المحكمات فـي القرآن؛ وهي المبادئ الأخلاقية العليا للتشريع. ولم تكن «مشكلة النسخ» موجودة، والتي سيجري عليها النزاع لاحقًا، لأنه ليست ثمة أحكام ثابتة تُنسَخ، وإنما هي معالجة لأوضاع متغيّرة.
- النظرية المعرفـية الفقهية.. مع الاختلاف بين مذاهب المسلمين فـي تفاصيلها؛ تقوم على ثلاث منظومات هي: الرواية وأصول الفقه وعلم الكلام، وهي نظرية نضجت فـي القرن الثاني الهجري، ومستمرة حتى اليوم.
المشكلة فـي حقوق المرأة الآن لدى المسلمين؛ أنها تتنازعها النظرية المعرفـية الفقهية والنظرية المعرفـية العلمانية، الأولى منتهية الصلاحية، والثانية لا تنتمي إلى حقلنا الاجتماعي، والمسلمون.. عاجزون عن إنشاء نظرية معرفـية تقوم على أساس الحق الطبيعي من الناحية الإنسانية، ومرجعية الإحكام القرآني من الناحية الأخلاقية. إن أية معالجة لحقوق المرأة وفق الوضع الحالي لن تخرج بحل، وسيظل الظلم كامنًا فـيها، وإن رضيت المرأة بحالها فهو ناتج عن عدم إدراكها لحقيقة التشريع الإلهي الذي جاء ليقر الأخلاق الإنسانية؛ وفـي مقدمتها العدل والرحمة. ولذا؛ فإنه قبل التشريع القانوني علينا أن نبني نظرية معرفـية تتجاوز النظرية الحالية؛ التي تشكّلت منذ أكثر من ألف عام.
0 تعليق