سام هيلير* - (إندبندنت عربية) 2024/12/19
يترك سقوط نظام بشار الأسد الأبواب مشرعة أمام تحديات كبيرة في سورية، حيث يتعين على المجتمع الدولي دعم انتقال سياسي شامل وتقديم مساعدات لإعادة بناء البلاد، مع مواجهة مخاوف من الفوضى والصراعات بين الجماعات المسلحة.اضافة اعلان
***
قبل فرار بشار الأسد من سورية في الثامن من كانون الأول (ديسمبر) الحالي، لم تكن سوى قلة من الدول ترغب فعلياً في سقوط حكومة الديكتاتور السوري. ولم يكن السبب وراء ذلك أن الحكومات الأجنبية تحب الأسد أو توافق على الطريقة الوحشية التي حكم بها سورية، بل لأنها كانت تخشى مما قد يحل محله: حكم الجماعات المسلحة المتطرفة، والصراعات الطائفية، والفوضى التي قد تبتلع سورية -لا بل معظم الشرق الأوسط.
كانت هذه الرؤية المخيفة أيضاً هي حجة نظام الأسد للبقاء، إذ كان يدعي أن استمراره في الحكم يمنع الفوضى والمجازر، وكان كثير من الناس، بمن فيهم صناع السياسات الدوليون، مقتنعين بذلك. في العام 2015، عندما اقتربت المعارضة المسلحة من الإطاحة بالأسد، اعتبر المسؤولون الأميركيون احتمال انتصار المعارضة بصورة كاملة وسقوط النظام بمثابة "نجاح كارثي".
والآن، رحل الأسد. والسوريون يحتفلون في شوارع دمشق، وجماعات المعارضة تحاول تنظيم انتقال سياسي، والعالم على وشك اكتشاف ما سيحدث بعد سقوط النظام. وقد ظل الأسد قاسياً وظالماً حتى النهاية، على الرغم من أنه كان يدير دولة تزداد فقراً واختلالاً. وترك الأسد وراءه بلداً محطماً، وأي حكومة جديدة -ناهيك عن ائتلاف من جماعات المعارضة المسلحة المتناحرة- ستواجه تحديات جسيمة في التعامل مع هذه الظروف. ومع ذلك، فإن السجل السيئ للجماعات المتمردة السورية عندما سيطرت على مساحات كبيرة من الأراضي يجعل التفاؤل أمراً صعباً أيضاً.
مع ذلك، فإن نجاح سورية يصب في مصلحة الجميع. السوريون لا يريدون مزيداً من المعاناة والدمار، والمجتمع الدولي لا يستطيع أن يقف موقف المتفرج أمام تفكك سورية. والآن على الدول المعنية أن تبذل قصارى جهدها لمساعدة سورية، بما في ذلك تشجيع انتقال سياسي سلمي وشامل، وتقديم مساعدات إنسانية واقتصادية سخية، لضمان عدم تحقق أسوأ المخاوف بشأن سورية ما بعد الأسد.
سقوط الأسد
في العام 2011، حاول نظام الأسد قمع حركة احتجاجية وطنية عمت جميع أنحاء البلاد. وتحولت هذه الاحتجاجات إلى تمرد مسلح، واجهه الأسد بعنف متصاعد ووحشي. وفي مراحل عدة من الحرب التي تلت ذلك، بدا أن حكومة الأسد كانت في خطر حقيقي من أن تدحرها قوات المعارضة المسلحة. لكن التدخلات العسكرية من حليفَي الأسد، إيران وروسيا، ساعدت على استقرار حكومته عسكرياً ومكنتها من استعادة السيطرة. وبين العامين 2015 و2020، قصف الأسد المعاقل التي سيطرت عليها المعارضة في جميع أنحاء سورية بغية إخضاعها، وتمكن من استعادة معظم البلاد.
ثم دخلت الحرب حالة من الجمود لفترة مطولة. وخلال هذه الفترة، عززت تركيا سيطرتها على معاقل المعارضة الباقية في شمال سورية، في حين بسطت "قوات سورية الديمقراطية" (قسد) المدعومة من الولايات المتحدة نفوذها على شرق سورية، بما في ذلك على الموارد الزراعية والبتروكربونية (المركبات العضوية المشتقة من البترول أو الغاز الطبيعي) الأكثر قيمة في البلاد. وبسبب العقوبات الأميركية الجديدة وانهيار الاقتصاد في لبنان المجاور، غرقت سورية بأكملها، خصوصاً المناطق الخاضعة لحكم النظام، في أزمة اقتصادية عميقة. ومع ضعف مؤسسات الدولة السورية وجيشها تدريجاً، ظهر عجز الحكومة، بسبب ندرة الموارد، عن تحقيق الاستقرار وإعادة إعمار المناطق التي استعادتها من المعارضة.
ولكن، في هذا العام، ومع انشغال إيران وروسيا في نزاعات أخرى، اغتنمت بقايا المعارضة السورية المسلحة هذه الفرصة. كانت "هيئة تحرير الشام" وغيرها من فصائل المعارضة تنظم صفوفها لأعوام في معقل تحميه تركيا في محافظة إدلب شمال غربي سورية. وفي السابع والعشرين من تشرين الثاني (نوفمبر) الماضي، شنت هذه الفصائل هجوماً على مدينة حلب الشمالية. وعندما اخترقت دفاعات الجيش السوري واستولت على المدينة، أدى ذلك إلى انهيار متسلسل للجيش السوري على مستوى البلاد. وبقيادة "هيئة تحرير الشام"، تقدمت القوات جنوباً من حلب باتجاه العاصمة دمشق، في وقت انتفض فيه السوريون في المناطق الوسطى والجنوبية من البلاد، بما في ذلك المناطق التي كانت تحت سيطرة المعارضة سابقاً. وفي الثامن من كانون الأول (ديسمبر) الحالي، مع تقدم فصائل المعارضة نحو دمشق من الشمال والجنوب، فر الأسد إلى روسيا. وبعد أكثر من 13 عاماً من الحرب الأهلية الطاحنة، انهار نظام الأسد في أقل من أسبوعين.
والآن، في دمشق ما بعد الأسد، تولت "هيئة تحرير الشام" زمام الأمور في محاولة لإدارة عملية انتقال سياسي منظمة، ونصّبت "حكومة الإنقاذ السورية" المؤقتة التي كانت قد أنشأتها سابقاً في إدلب، كسلطة انتقالية وطنية. وعلاوة على ذلك، نشرت قواتها الأمنية في العاصمة، وأقامت نقاط تفتيش على الطرق الرئيسة في جميع أنحاء البلاد، وحذرت بصورة متكررة مقاتلي المعارضة المنتصرين من إساءة معاملة المدنيين أو نهب ممتلكاتهم.
المتمردون في سُدة الحكم
يفترض كثيرون في الأوساط الإعلامية والسياسية الغربية الآن أنه من الواضح أن "هيئة تحرير الشام" ستتولى الحكم في سورية. ومع ذلك، هناك أسباب تدعو إلى الشك في أن الأمور ستكون بهذه البساطة. فحتى بضعة أسابيع مضت، لم تكن "هيئة تحرير الشام" تسيطر سوى على ثلثي إحدى المحافظات الواقعة في الأطراف الريفية السورية. وسوف تشكل إدارة سورية بأكملها تحدياً مختلفاً تماماً.
"هيئة تحرير الشام" هي النسخة الأحدث من "جبهة النصرة" التي كانت في الأصل تمثل الطليعة السورية (الجناح السوري) لتنظيم "داعش"، ثم تحولت إلى فرع لتنظيم "القاعدة" في سورية. وفي العام 2016، أعلنت الهيئة عن قطع علاقتها بتنظيم "القاعدة" والجهاد العابر للحدود الوطنية، على الرغم من أنها ما تزال تضم بعض المتشددين المخضرمين والمقاتلين الأجانب في صفوفها. وقد صنفها مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة والولايات المتحدة وحكومات وطنية أخرى كمنظمة إرهابية.
خلال الأعوام الأخيرة، عملت "هيئة تحرير الشام" بصورة دؤوبة على تحسين صورتها وضمان إزالتها من قوائم الإرهاب الدولية. ومع تقدم قوات المعارضة نحو دمشق، حاولت الهيئة وقائدها "أبو محمد الجولاني" تقديم صورة تتسم بالجدية والاعتدال. وأصدرت الهيئة بيانات تطمئن المكونات العرقية والطائفية المتنوعة في سورية، وكذلك الأطراف الدولية المختلفة، في حين أجرى الجولاني مقابلات مع وسائل إعلام غربية أكد خلالها تاريخ التعايش في سورية والتزامه بالحكم القائم على المؤسسات.
مع اجتياح "هيئة تحرير الشام" دمشق، أظهرت قواتها نسبياً درجة من الانضباط. وكانت التقارير عن عمليات الإعدام الفورية (من دون محاكمة) وعمليات الانتقام الطائفية محدودة. وربما يرجع هذا جزئياً إلى الطريقة التي سلّم بها جزء كبير من الجيش السوري الأراضي من دون مقاومة. ولا شك في وقوع بعض أعمال العنف الانتقامية وفرار آلاف السوريين الخائفين من سيطرة المتشددين إلى لبنان. ولكن في الوقت الراهن، لم تشن المعارضة المنتصرة حملة انتقامية ضد أعدائها السابقين، أو ضد المجتمعات المرتبطة بصورة واسعة بالنظام السابق.
للأسف، لا يبشر سجل "هيئة تحرير الشام" على المستوى المحلي بالخير في ما يتعلق ببناء حكومة وطنية تراعي التنوع الديني والعرقي والسياسي في سورية. فقد أظهرت الهيئة في إدارتها لإدلب انعداماً حقيقياً للالتزام بالتعددية السياسية. وكانت قد نظمت بعض الإجراءات الشكلية لإضفاء الشرعية على حكومة الإنقاذ التابعة لها في إدلب، بما في ذلك عقد مؤتمر دستوري يفترض أنه شامل، لكنها لم تكُن عمليات ديمقراطية مفتوحة أو تشاركية. كان الجولاني دائماً هو المسيطر، على الرغم من أنه لم يكُن يشغل منصباً حكومياً رسمياً، وكان ينظر إليه ببساطة على أنه الزعيم الفعلي لإدلب. وقبل بضعة أشهر فحسب، قمعت أجهزة الأمن التابعة لـ"هيئة تحرير الشام" بعنف الاحتجاجات في إدلب التي طالبت بالإفراج عن المعتقلين الذين تحتجزهم الهيئة وإنهاء حكم الجولاني.
تمكنت "هيئة تحرير الشام" من فرض النظام والاستقرار نسبياً في إدلب. ومع ذلك، يبدو من غير المرجح أن تتمكن الهيئة من تكرار نموذج سيطرتها على إدلب في جميع أنحاء سورية. فقد كان ترسيخ سيطرة "هيئة تحرير الشام" في إدلب عملية استغرقت أعواماً طويلة وشهدت عنفاً متكرراً، قامت "الهيئة" خلاله بسحق الفصائل المعارضة المنافسة والقضاء على المنشقين والمخالفين من داخلها. ويبدو من الوارد أن باستطاعة "هيئة تحرير الشام" توسيع أجهزتها الإدارية والأمنية من إدلب إلى حلب المجاورة بعد بسط سيطرتها هناك. لكن تعميم هذا النموذج على سورية بكاملها يبدو مستحيلاً. فسورية من الناحية الجغرافية أكبر بكثير، وتضم عدداً من السكان يساوي 10 أضعاف سكان إدلب، وهي أكثر تنوعاً، كما أنها تعج الآن بالمسلحين الذين لا يخضعون لسيطرة "هيئة تحرير الشام" فعلياً. وعلى الرغم من أن "هيئة تحرير الشام" نجحت في ترسيخ ثقافة قوية من الانضباط الداخلي، فإن عدد مقاتليها الذي يقدر بنحو 30 ألفاً، لا يبدو كافياً لحكم سورية بأكملها أو السيطرة على الجماعات المسلحة المتعددة التي قد تظهر أو تعمل في ظلها.
في الواقع، ليست "هيئة تحرير الشام" الممثل الوحيد للمعارضة المسلحة في سورية، وهي لم تكُن حتى الممثل الوحيد للمعارضة المسلحة في إدلب نفسها، حيث جمعت الهيئة فصائل حليفة عملت كقوات مساندة لها. ولا يمكن للهيئة السيطرة على جميع الجماعات المسلحة النشطة الآن في أنحاء البلاد. ومن المؤكد أن الفصائل التي أعادت حشد قواتها في وسط البلاد وجنوبها خلال الأسابيع الماضية لا تخضع لأوامر الجولاني.
عندما سيطرت مجموعات المعارضة السورية سابقاً على أجزاء أخرى من البلاد، بما في ذلك جنوب سورية وريف دمشق وبعض المناطق الشمالية التي احتلتها الفصائل المدعومة من تركيا، غالباً ما كانت النتيجة حكماً تعسفياً من الميليشيات واقتتالاً داخلياً بين أفراد الجماعة نفسها. وفشلت محاولات توحيد الفصائل المحلية وبناء مؤسسات موحدة مراراً وتكراراً. ولم تتمكن "هيئة تحرير الشام" من تحقيق النجاح في إدلب إلا بفضل الصبر لفترة طويلة والمثابرة والأساليب القسرية الدموية.
في الوقت الحالي، يتطلع كثيرون إلى تركيا لاستخدام نفوذها على "هيئة تحرير الشام" والفصائل المعارضة الأخرى للمساعدة في توجيه عملية انتقال السلطة في سورية. مع ذلك، وعلى الرغم من أن تركيا لديها بعض النفوذ على "هيئة تحرير الشام"، يبدو أنها لا تسيطر بصورة كاملة عليها. وعلى سبيل المثال، أثارت "الهيئة" استياء الحكومة التركية في السابق عندما استولت على الأراضي التي تسيطر عليها الجماعات المدعومة من تركيا في حلب. وحتى الفصائل المعارضة في شمال سورية الخاضعة لتركيا بصورة كاملة -أي التي تتلقى تمويلاً كاملاً من أنقرة وتعمل في المناطق التي تحتلها تركيا وتديرها مؤسسات مرتبطة بأنقرة- لم تظهر تركيا أي قدرة على فرض الانضباط عليها أو الحد من انتهاكاتها. وفي الغالب، أطلقت أنقرة العنان لهذه الفصائل للعمل ضد "قوات سورية الديمقراطية" الخاضعة لقيادة الأكراد والتي تعتبرها أنقرة ذراعاً لـ"حزب العمال الكردستاني"، وهو جماعة كردية مسلحة محظورة. وحتى بعد سقوط الأسد، استمرت الفصائل المدعومة من تركيا في مهاجمة "قوات سورية الديمقراطية" في شمال سورية.
هناك أسباب تدعو إلى الشك في مصداقية تحول "هيئة تحرير الشام" إلى الاعتدال. لكن الخطر الأكثر إلحاحاً الذي يهدد سورية ليس التطرف الإسلامي، بل الفوضى التي قد تنجم عن انتصار المعارضة. وهناك خطر حقيقي يتمثل في خروج الوضع في سورية ما بعد الأسد عن السيطرة، وفي انجرار البلاد إلى صراع مفتوح بين الجماعات المسلحة، بل أيضاً إلى أعمال انتقامية فردية لا حصر لها وتصفية حسابات دموية.
محكوم بالفشل
أياً كان النظام الذي سيحل محل الأسد، فإن الحكومة الجديدة لن تواجه ظروفاً مواتية لتحقيق الاستقرار والتعافي. ويبدو من المرجح أن الأزمة الاجتماعية والاقتصادية الخانقة بالفعل في سورية ستتفاقم أكثر. ووفقاً للأمم المتحدة، كان هناك 16.7 مليون سوري في حاجة إلى مساعدات إنسانية في العام 2024، أي ما يشكل أكثر من 70 في المائة من سكان البلاد، وهو أعلى رقم سجل منذ بداية الحرب في سورية. كما يعتقد بأن نحو 12.9 مليون سوري يعانون من انعدام الأمن الغذائي. وفي الواقع، كانت الخدمات الحكومية قد انهارت بالفعل قبل سقوط الأسد. وفي المناطق التي كانت تحت سيطرة نظام الأسد خصوصاً، أدت انقطاعات الكهرباء إلى تعطيل الحياة اليومية والخدمات العامة، مثل التعليم وضخ المياه الجارية.
تجدر ملاحظة أن "هيئة تحرير الشام" نفسها لديها موارد محدودة. وقد تمكنت المجموعة من الحفاظ على الاستقرار الاجتماعي في إدلب بفضل المساعدات الإنسانية المدعومة دولياً التي كانت تتلقاها عبر تركيا. وما تزال "هيئة تحرير الشام" مصنفة كمنظمة إرهابية، وقد تتولى الآن السلطة في سورية المنهارة اقتصادياً والمثقلة بالفعل بعقوبات واسعة. وليس من الواضح كيف سيعمل الجهاز الحكومي والاقتصاد السوريين الخاضعين لأنظمة عقوبات عديدة ومتداخلة، أو ما إذا كان تدفق الدعم الدولي اللازم من الجهات المانحة سيتحقق. ولا يمكن توقع أن يُبقي حلفاء الأسد القدامى سورية واقفة على قدميها، إذ يبدو أن إيران أوقفت بالفعل شحنات النفط التي كانت ضرورية لتوليد الطاقة. وأبلغت وكالات الإغاثة الإنسانية عن نقص في السلع الأساسية وزيادات حادة في أسعار المواد الغذائية في المدن الكبرى في جميع أنحاء البلاد.
يشير بعض المراقبين إلى أن سقوط نظام الأسد قد يمهد الطريق لعودة اللاجئين السوريين. ومع ذلك، ربما تكون النتيجة خلاف ذلك، أي حدوث تدفقات جديدة من الهجرة إلى خارج سورية. وكان من الخطأ تبسيط الأمور بالادعاء أن جميع اللاجئين الذين غادروا سورية بعد اندلاع الحرب الأهلية العام 2011 كانوا يفرون من اضطهاد نظام الأسد. كان هذا صحيحاً بالنسبة لبعضهم، لكن كثيرين آخرين كانوا يحاولون الهروب من حالة انعدام الأمن والعنف بصورة عامة، والتجنيد العسكري الإجباري في الجيش السوري، أو الانهيار الاجتماعي-الاقتصادي. ولكي يتمكن اللاجئون من العودة بطريقة مستدامة ومجدية، يجب أن تكون سورية مكاناً يمكن للناس أن يعيشوا فيه فعلياً؛ مكاناً آمناً يوفر خدمات عامة ووظائف موثوقة. حتى اللاجئون السوريون الذين يشعرون بالفرح لسقوط الأسد لن يتمكنوا من العودة إلى وطنهم إذا انهار القانون والنظام، أو إذا لم يتمكنوا من إيجاد سبل لإعالة أسرهم.
وقد يؤدي الحرمان الاقتصادي إلى زيادة المنافسة العنيفة بين الجماعات المسلحة السورية على الأراضي والموارد. فبعد أكثر من عقد من الحرب، طورت هذه الجماعات مصالحها وحاجاتها المستقلة. ولن تختفي الأسواق السوداء التي ظهرت في ظل اقتصاد الحرب السوري بمجرد رحيل الأسد. لقد كانت الجهات المرتبطة بالأسد، بما فيهاالجماعات التي كانت تعارضه ذات يوم، تجني مئات ملايين الدولارات من خلال تهريب الأمفيتامينات غير المشروعة (مثل الكبتاغون). وقد يؤدي الصراع على السيطرة على هذه التجارة الآن إلى تأجيج العنف بين الفصائل المتنافسة.
بالإضافة إلى ذلك، ستترتب على الهجرة الجديدة من سورية واستئناف الصراع الداخلي آثار مزعزعة للاستقرار على جيران سورية، وكذلك احتمال أن يقوم هؤلاء الجيران أنفسهم بدور المخرب المزعزع للاستقرار داخل سورية. من جهة، تستمر تركيا في تبني خطاب متشدد ضد "الإرهابيين الانفصاليين" التابعين لـ"قوات سورية الديمقراطية" وتشجع وكلاءها المحليين على مواصلة الهجمات ضد القوات التي يقودها الأكراد. وبالتوازي، قصفت إسرائيل ودمرت منشآت عسكرية سورية في جميع أنحاء البلاد واستولت على مزيد من الأراضي على طول مرتفعات الجولان. ويغلب أن بعض الدول في المنطقة، خاصة في محيط سورية، تشعر بالقلق من احتمال وصول جماعة إسلامية متشددة إلى السلطة في دمشق. وهناك خطر حقيقي الآن يتمثل في أن تلجأ الدول الإقليمية إلى تجنيد فصائل محلية لتأمين مصالحها في سورية، وربما من خلال الاستيلاء على مناطق عازلة على طول الحدود السورية. ويبدو من المستبعد أن تكون كل هذه الظروف مواتية لتحقيق انتقال سياسي ناجح.
تجنب الكارثة
لن يفتقد أحد بشار الأسد. فقد ارتكب النظام السوري تحت حكمه وحكم والده، حافظ، فظائع مروعة للاحتفاظ بالسلطة. وقد تعامل بوحشية وبطش مع الشعب السوري وأدخله في دوامة من البؤس. ولا يخفى شعور الارتياح الذي انتاب معظم السوريين بعد رحيل الأسد، الذي تجلى في الاحتفالات التي عمت شوارع دمشق ومدن أخرى، وفي المشاعر الجياشة التي صاحبت فتح شبكة السجون التابعة للنظام وإطلاق سراح المعتقلين.
الآن يتعين على جميع الأطراف أن تضمن عدم تحقق أشد التوقعات قتامة بعد شأن سقوط الأسد، وألا يكون البديل عنه مجرد الفوضى والعنف. لا شك في أن السوريين أنفسهم سيقومون بالدور الرئيس في تقرير مستقبل بلدهم. ومع ذلك، يمكن للدول الخارجية أن تساعد أيضاً من خلال تشجيع "هيئة تحرير الشام" وغيرها من الجماعات السورية على تحقيق انتقال سياسي سلمي وشامل إلى أقصى حد ممكن. وبالتوازي مع ذلك، يتعين على الدول المانحة أن تعمل على إطلاق برنامج كبير للمساعدات الإنسانية والاقتصادية لسورية، بما في ذلك تقديم المساعدات للسوريين الأكثر ضعفاً ودعم الخدمات الأساسية في جميع أنحاء البلاد. وينبغي لها أن ترفع فوراً العقوبات المفروضة على حكومة الأسد السابقة، بما في ذلك إصدار الإعفاءات أو التراخيص التي تحيد العقوبات المفروضة على مؤسسات الدولة، مثل البنك المركزي السوري وعلى القطاعات الاقتصادية بأكملها. ويتعين على الجهات الخارجية أن تثبط بقوة أي صراع فصائلي جديد في البلاد، وأن تقاوم إغراء تعزيز مصالحها الخاصة من خلال دعم مجموعة على حساب أخرى.
على الرغم من أن بعض الدول قد تكون لديها تحفظات مفهومة تجاه "هيئة تحرير الشام"، فإنها يجب أن تسعى إلى إنجاح عملية الانتقال في سورية وألا تتدخل لإفشالها بأي حال من الأحوال، ذلك لأن انهيار سورية ستكون عواقبه أسوأ، سواء بالنسبة للسوريين أو للمنطقة بأسرها. وإذا غرقت سورية في الفوضى، فلن يكون ذلك مجرد كارثة إنسانية، بل سيكون أيضاً بمثابة تبرير لنوع الحكم الديكتاتوري الأسدي.
*سام هيلير: محلل سياسي وزميل في "مؤسسة القرن" (سينتشوري إنترناشيونال)، في مركز "مؤسسة القرن للأبحاث والسياسات الدولية". المقال مترجم عن مجلة "فورين أفيرز"، حيث نشر 16 كانون الأول (ديسمبر) 2024.
0 تعليق