الأربعاء 25/ديسمبر/2024 - 05:15 م 12/25/2024 5:15:53 PM
أن تكتوي بنيران الاحتلال، فذلك أمر طبيعي، من عدو يريد إفناءك.. أما أن تأتيك الضربة من أخيك في زمن الاحتلال، فإنها أقصى وأدمى في تأثيرها، وأقصى إيلامًا، خصوصًا وأنه من المُفترض أن تكونا معًا في خندق واحد، في مواجهة من يتربص بالإنسان، ويُخطط للاستيلاء على المكان، أرض الآباء والأجداد!!.. هذا ما يحدث في الضفة الغربية بفلسطين المحتلة.
ولننظر أولًا إلى ما قال وزير المالية الإسرائيلي اليميني المتشدد، بتسلئيل سموتريتش، من إنه أمر بالاستعدادات لضم المستوطنات في الضفة الغربية، وأصدر تعليماته لوزارته (بإعداد البنية التحتية اللازمة لتطبيق السيادة الإسرائيلية هناك.. وإذا كان وزير الخارجية الإسرائيلي، جدعون ساعر، قال، (إن الحكومة لم تتخذ أي قرار بشأن قضية الضم حتى الآن)، فإننا لا يجب أن نتغاضى عن أشارته إلى أن ذلك (تمت مناقشته خلال فترة ولاية دونالد ترامب الأولى، كرئيس للولايات المتحدة.. وسيتم مناقشته مرة أخرى مع أصدقائنا في واشنطن).. وهي التصريحات التي وصفتها السلطة الفلسطينية بأنها (امتداد استعماري وعنصري صارخ لحملة الإبادة والتهجير القسري المستمرة ضد الشعب الفلسطيني).. كما تؤكد تصريحات سموتريتش (نية الحكومة الإسرائيلية استكمال خططها للسيطرة على الضفة الغربية بحلول 2025).
وترجمة لهذه التصريحات الإسرائيلية، نقلت صحيفة (نيويورك تايمز)، في فبراير الماضي، شهادات فلسطينيين في الضفة الغربية، تفيد بأن قوات الاحتلال الإسرائيلي صارت تستخدم في هجماتها هناك، تكتيكات مماثلة لما تنفذه في قطاع غزة، ومن ذلك، القصف الجوي المُدمر واستخدام الفلسطينيين دروعًا بشرية.. وخلَّفت الغارات الإسرائيلية دمارًا واسعًا، في الطرق وشبكات الكهرباء والماء والصرف الصحي.. كما أفاد العاملون في المجال الإنساني، من منظمات محلية ودولية والأمم المتحدة، بأن إسرائيل عرقلت جهود الإغاثة، ولم يعد السكان والعاملون في المجال الإنساني وبعض الخبراء، يصفون عمليات الجيش الإسرائيلي بالهجمات، بل أصبحوا يشبهونها بالحرب.
نداف وايمان، مدير منظمة (كسر الصمت)، التي تتألف من جنود إسرائيليين سابقين يرفضون ممارسات الاحتلال، وقد جمعوا شهادات جنود شاركوا في هجمات في جنين وطولكرم، وصف ما يحدث، بأنه (غَزْوَنَة الجزء الشمالي من الضفة الغربية)، ونقلت (نيويورك تايمز) شهادات تفيد، بأن قوات الاحتلال، تُجبر الفلسطينيين على الخروج من المناطق المُستهدفة بالقوة الجبرية.. وحذَّرت منظمات حقوقية، من أن الاحتلال الإسرائيلي يستنسخ مثل هذه الممارسات الخطيرة، التي يستخدمها في غزة وينقلها إلى الضفة الغربية.. وقال مسئولون في الأمم المتحدة، إن إسرائيل تنفذ في الضفة الغربية (تكتيكات فتاكة) تُشبه تكتيكات الحروب.. وقد حاول مسئولون أمميون الدخول إلى جنين لإجراء تقييم ميداني، لكن السلطات الإسرائيلية منعتهم، وفقًا لما ذكره المتحدث باسم الأمم المتحدة، ستيفان دوجاريك، في سبتمبر الماضي.
وبدلًا من أن أكون (أنا وأخي على الغريب)، يبدو أن أخي اختار أن يكون عونًا للغريب، وفي جنين نفسها!!.. إذ بدأت أجهزة الأمن الفلسطينية، عملية أمنية أطلقت عليها اسم (حماية وطن)!! في مخيم جنين للاجئين الفلسطينيين، شمالي الضفة الغربية، مُستهدفة مُسلحين ينتمون لكتيبة جنين، تقول إنهم (خارجون عن القانون)!!.. واندلعت في المخيم اشتباكات مُتقطعة، أسفرت عن مقتل القيادي في الكتيبة، يزيد جعايصة، المُطارد من الاحتلال الإسرائيلي منذ أربعة أعوام، ومقتل عدة مدنيين برصاص رجال أمن السلطة.. وقد بدأت أحداث مخيم جنين، باعتقال أجهزة السلطة، إبراهيم طوباسي، وعماد أبو الهيجا، مما أثار غضب (كتيبة جنين)، التي احتجزت سيارات تابعة للسلطة، رهينة للمطالبة بالإفراج عنهما.. فلماذا هذه الحملة؟.
في حين يقول الناطق الرسمي لقوى الأمن الفلسطيني، العميد أنور رجب، إن الحملة تستهدف (خارجين عن القانون)، متعهدًا بملاحقتهم (في جميع أنحاء الضفة الغربية بكافة عناوينهم ومسمياتهم)، تقول كتيبة جنين، إن السلطة الفلسطينية تريد (جنين بلا سلاح مقاومة.. وبوصلتنا واضحة، وهي ضد الاحتلال فقط، وتبنينا المقاومة عن الضفة كاملة، وقد اغتالت الأجهزة الأمنية مُطاردًا من الاحتلال منذ سنوات وطفلين بريئين).. إلا أن المحلل السياسي، باسم التميمي، يُفسر ما يحدث في جنين بقوله، إن (بعض المجموعات خرجت على النظام العام الفلسطيني، وعلى القانون والإجماع الوطني، الذي يُحرِّم رفع السلاح بين الفلسطينيين، واستخدام السلاح كلغة للتفاهم بين الأطياف الفلسطينية المختلفة).. وفيما إذا كانت عملية مخيم جنين بمثابة عربون سياسي لخطب ودّ الإدارة الأمريكية القادمة، قال التميمي (لا أعتقد أن القيادة الفلسطينية بصدد تقديم عربونات لإدارة دونالد ترامب.. الرئيس محمود عباس قال لترامب في صفقة القرن لا، فكيف يُفترض أنه يُقدم عربونًا لإدارة ترامب وغيرها؟).
وخلافًا لرأي التميمي، يقول مدير مركز (يبوس) للدراسات، سليمان بشارات، إنه بغض النظر عن الملاحظات والمآخذ على المجموعات المسلحة في مخيم جنين، والجهات التي تدعمها وسلوكها ومرجعياتها، (فإن تخلي السلطة عن فكرة الحوار والاحتضان، والانتقال لفكرة الصدام، سيولِّد إشكالية كبير لا يُحمد عقباها ولا يمكن توقع نتائجها).. إن ما يجري، لا يمكن فصله عن الواقع السياسي للسلطة، التي تحاول (كسب المرحلة المقبلة، لأن البديل هو اندثارها، وخيار السلطة ليس سهلًا، ونتائجه غير مضمونة)، فإنها (تقرأ المشهد تحت ضغوط إقليمية وعربية ودولية).. لقد وُضِعت السلطة أمام تحدي، إما إثبات قدرتها على إدارة الحالة الفلسطينية، وفق التصورات الأمريكية والإسرائيلية، أو تكون على أبواب تغيير جذري.. ومن هنا، لم يعد أمامها سوى خيار الذهاب في هذا الاتجاه، اعتقادًا منها أنها قد تُثبت حضورها وقدرتها على فرض السيطرة الكاملة.
أما البديل، فهو (حاضر وجاهز لليوم التالي للضفة الغربية، وهو السيطرة الإسرائيلية الكاملة، وربما بأدوات فلسطينية تقبل ما يُطرح عليها).. ولا يُستبعَد وجود منعطفات خطيرة، من شأنها، ليس فقط تعزيز الفجوة والانقسام السياسي، بل إحداث انقسام مجتمعي عميق جدًا، يُذكِّر بمراحل سبقت انهيار كثير من الأنظمة السياسية العربية، التي استخدمت لغة القوة وليس الاحتضان، في التعامل مع أي متناقضات داخلية.. لذلك، فإن المرحلة القادمة (ستكون صعبة في الخيارات والنتائج، وربما يتغيَّر، بناءً عليها، الكثير من العناوين المتعلقة بشكل وإدارة السلطة الفلسطينية، وإدارة الحالة الفلسطينية بشل عام).
ما يجري في جنين (يندرج تحت إطار الخلافات السياسية والأمنية داخل الشعب الفلسطيني، في ظل غياب قيادة وطنية موحدة)، كما يرى المحلل السياسي، سامر عنبتاوي، لأن ثمة فرقًا في النهج، بين مقاومين يرون أنهم ينفذون عمليات بطولية ضد الاحتلال، وطرف آخر لا يرى تأثيرًا لهم في جانب الاحتلال، مقابل الأثمان التي تُدفع فلسطينيًا، كالحصار والتضييق الاقتصادي والإجراءات الإسرائيلية وغيرها.. وبما أن (المقاومة بكل وسائلها حق مشروع للشعب الفلسطيني)، فيجب رفض إطلاق صفة (خارجون عن القانون) على الملاحقين في مخيم جنين.. (لا يمكن اعتبار السلاح الفلسطيني الموجه للاحتلال خارجًا عن القانون، لأن الشعب الفلسطيني في مرحلة التحرر الوطني… هناك من يريد تصويره بهذا الاتجاه ـ خروج عن القانون ـ لتبرير ملاحقاته الأمنية).. وهنا، لا يُستبعَد أن تكون عملية جنين (مرتبطة بإطار سياسي أو رؤية سياسية قادمة)، مع الأسف، لكون السلطة (لا تزال بعيدة عن نبض الشعب.. حيث هناك فجوة كبيرة بين إدارة السلطة والتوجهات الشعبية الفلسطينية).. وإذا كان هناك (من يُفكر في إمكانية تحسين العلاقة مع الولايات المتحدة أو دولة الاحتلال، في ظل حكومة إسرائيلية يمينية متطرفة تريد الاستيلاء على أجزاء من الضفة، فهو واهم!!).. فالمسار السياسي استمر عشرات السنوات، ولم يأتِ بشيء سوى خسارة الشعب الفلسطيني، في كافة المجالات السياسية والأمنية والاقتصادية والوطنية، وبالتالي، فإن أي تناغم مع هذا التوجه، هو تراجع في الأداء الفلسطيني.
●●●
وبالعودة إلى الوراء.. فإن الفصائل المسلحة المُنظمة في الحالة الفلسطينية، تُعد امتدادًا لسياقات تاريخية مرت بها القضية؛ هي من وجة نظر فلسطينيّة (مقاومة) ضد إسرائيل، التي تعتبر هذه الفصائل (إرهابية.. وتستهدف المدنيين الإسرائيليين).. وفي داخل الضفة الغربية تحديدًا، ارتبطت المجموعات المسلحة تنظيميًا وسياسيًا، بالفصائل الفلسطينية وخصوصًا الكبرى منها.
في نهايات ما يُعرف بالانتفاضة الأولى عام 1987، ظهرت تشكيلات عسكرية مسلحة مثل (الجيش الشعبي) و(الفهد الأسود) و(صقور فتح)، وجميعها كان يتبع حركة التحرير الوطنية الفلسطينية (فتح).. ومع اندلاع ما يُعرف بالانتفاضة الفلسطينية الثانية عام 2000، عقب دخول الجنرال الإسرائيلي، أرييل شارون، باحات المسجد الأقصى، انضوت كلّ التشكيلات تحت اسم (كتائب شهداء الأقصى)، كجناح عسكري مُوحَّد لحركة فتح.. ومع تأسيس الشيخ أحمد ياسين حركة المقاومة الإسلامية (حماس) عام 1987، طوَّرت الحركة أول جهاز عسكري لها، بعد أن كانت عبارة عن مجموعة من الخلايا السرية، واطلقت عليه اسم (المجاهدون الفلسطينيون).. وبحلول 1991، غيَّرت الحركة الاسم إلى (كتائب عز الدين القسام)، التي اتخذت من اسم الشيخ عز الدين القسام، الذي تصفه حماس بأنه (رمز من رموز المقاومة الفلسطينية).. ونشأت كذلك عام 1987 كتائب (النسر الأحمر)، والتي كانت تُعد أحد الأجنحة العسكرية التابعة لـ (الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين).. وبرز اسم (سرايا القدس) في قطاع غزة ثم الضفة الغربية، كجناح عسكري لحركة الجهاد الإسلامي، التي تأسست عام 1982 تحت اسم كتائب (سيف الإسلام).. ومع مطلع التسعينيات، غيًّرت قيادة (الجهاد الإسلامي) حينها، بقيادة محمود عرفات الخواجا، اسم الجناح العسكري إلى (القوى الإسلامية المجاهدة)، التي عُرفت اختصارًا باسم (قسم)، وصولًا إلى اسمها الحالي في مطلع التسعينيات.
احتلت إسرائيل الضفة الغربية وقطاع غزة بعد حرب عام 1967.. ورغم انسحابها عام 2005 من القطاع الذي تسيطر عليه حماس، إلا أن إسرائيل أبقت على قوات عسكرية في مدن وقرى الضفة الغربية، وزادت من عمليات الاستيطان، رغم أن السلطة الفلسطينية تتمتع بعلاقات دبلوماسية وأمنية تُوصف بالجيدة مع إسرائيل.. وقالت محكمة العدل الدولية، في يوليو 2024، إن سياسة (الاستيطان الإسرائيلية في الضفة الغربية والقدس الشرقية تنتهك القانون الدولي).. وشهد عام 2022 ارتفاعًا ملحوظًا في الاشتباكات المسلحة في مدن الضفة، التي لوحِظ فيها، عام 2022، نمط جديد من أنماط المواجهة المسلحة؛ حيث ظهرت المجموعات المسلحة الُمصغرة، التي بدأت في شمال الضفة، وتكررت اشتباكاتها مع الجيش الإسرائيلي، وانتقلت بوتيرة أقل إلى جنوبها ووسطها.. وبرزت هذه المجموعات بالتزامن مع عمليات قتل نفذتها إسرائيل ضد (قادة ميدانيين) من الفصائل الفلسطينية.. وتصاعد المواجهة الفردية في الضفة أو ما يُعرف بـ (الذئاب المنفردة).
تباينت المجموعات المسلحة الجديدة في مسار تشكّلها وتطورها.. فشهدت بعض نماذجها تطورًا ملحوظًا وتراكمًا عملياتيًا، انعكس على الخبرة، والقدرة على الصمود، والتنسيق المشترك في المواجهة، في ظل التحديات التي تتعرض لها، فيما تراجعت بعض المجموعات، على الرغم من البداية الفاعلة لظهورها، بينما ظهر بعضها إعلاميًا ثم اختفى.. و(استطاعت المجموعات المسلحة الجديدة، البارزة منذ 2022، خلق نمط يختلف عن البنية التنظيمية للأحزاب الفلسطينية التقليدية، وشكَّلت قيادة مستمدة من الميدان ـ القائد الميداني، واكتسبت حاضنة شعبية واسعة، على الرغم من حداثة نشأتها وطابعها الشبابي).. لكن الصحفي الإسرائيلي، يوآف شتيرن، يرى أن (ظهور مثل هذه الفصائل المسلحة ـ وإن لو لم تكن مرتبطة بشكل مباشر بالتنظيمات الفلسطينية التقليدية، مثل فتح وحماس والجهاد ـ فإن تنفيذها للعمليات المسلحة واستهداف الجيش والشرطة الإسرائيلية، وربما المدنيين، أمر يشترك فيه الجميع).
وظهر نمط جديد للعمل الميداني المشترك في 2023؛ إذ ازداد عدد التشكيلات المُسلَّحة، وازداد تنسيق عناصرها دون إلغاء ارتباطها بتنظيماتها الأصلية، رغم انتماءاتها الفكرية المختلفة، والتي تتنوع بين الفكر اليساري الاشتراكي والشيوعي، والعلماني ذي البعد القومي العربي، وأيضًا هناك فصائل تنتمي إلى الفكر الإسلامي، مع اختلافات فكرية فيما بينها.. وكان هذا الظهور جليًا من خلال البيانات التي تنشرها المجموعات، سواء كانت بيانات نعي لمقاتليها أو إعلان عن عمليات مشتركة وغيرها من الأمور.. كما أشار موقع (والا) العبري، نقلًا عن ضباط إسرائيليين، (عن تشابه العبوات الناسفة التي تُزرع لاستهداف القوات الإسرائيلية في جنين ونابلس، مما قد يعني نقل هذه العبوات الناسفة بين جنين ونابلس).. ووفقًا لشتيرن، فإن هذه الفصائل (تتلقى دعمًا من إيران وحزب الله، وأنها تنسق وبشكل كبير مع القيادات الفلسطينية المُقيمة في الخارج، خصوصًا في لبنان وسوريا وقطر وتركيا).
وتشهد الضفة الغربية المحتلة منذ أكثر من عام، تصاعدًا في وتيرة العنف، لكن الوضع تدهور منذ اندلاع الحرب في غزة، عقب الهجوم غير المسبوق الذي شنّته حماس على إسرائيل في السابع من أكتوبر 2023.. وقُتِل منذ ذلك الوقت في الضفة الغربية أكثر من سبعمائة وأربعين فلسطينيًا، وفق وزارة الصحة الفلسطينية حتى السابع من أكتوبر 2024، فيما قُتِل ما لا يقل عن تسعة عشر إسرائيليًا، خلال الفترة نفسها، وفقًا لأرقام إسرائيلية رسمية.. وأوضح شتيرن، أن الجيش الإسرائيلي (كثَّف هجماته التي تستهدف قادة ومسلحي الفصائل في الضفة، بعد السابع من أكتوبر، لتشمل عمليات تستمر لبضعة أيام، بعد أن كانت لا تتعدى بضع ساعات)، مستخدمًا المسيرات والمروحيات والدبابات والمدرعات وسلاح الجو وأسلحة نوعية حديثة في هجماته.
●●●
هناك عدّة عوامل لعبت دورًا مهمًا في توسّع ظاهرة المجموعات المسلحة الجديدة، (منها غياب الأفق السياسي، وفشل مسار المفاوضات، وأزمات السلطة المُركبة المتمثلة في الأزمة الاقتصادية، واستمرار علاقاتها الأمنية المُعقدة والاقتصادية مع إسرائيل).. يُضاف إلى ذلك، (عدم قدرة حركة حماس على الجمع بين السلطة والمقاومة، وتركيزها على تشجيع المقاومة المسلحة في الضفة والتهدئة في غزة)، إذ أن حماس تحاول الوصول إلى وقف إطلاق نار في غزة، مع صفقة لتبادل الرهائن الإسرائيليين بالسجناء الفلسطينيين، وفي الوقت ذاته، تحاول حث الفصائل في الضفة الغربية على التصعيد، للضغط على إسرائيل نحو الصفقة التي تريدها حماس.. وهو ما قد يُفهم على أنه ازدواجية في خطاب حماس.. هذه العوامل تتأثر أيضًا (بتصاعد وتيرة الاقتحامات للمقدسات الإسلامية والتوسع الاستيطاني والقتل والاعتقال، وتشجيع اليمين المتطرف في إسرائيل لاعتداءات المستوطنين ـ غير المُعترف بوجودهم دوليًا ـ على المناطق الفلسطينية).
أمّا الإسرائيلي، شتيرن، فيرى أن تنامي نشاط المقاومة المسلحة في المخيمات الفلسطينية شمال الضفة الغربية، أصبح أمرًا (يثير قلق إسرائيل)، ويعود وبشكل كبير (إلى أن هذه المجموعات المسلحة خارج سيطرة السلطة الفلسطينية، التي لا تستطيع ولم تنجح في مواجهتها.. مما جعلها تهديدًا مباشرًا على حياة الإسرائيليين)، علمًا بأن الأجهزة الأمنية التابعة للسلطة الفلسطينية تعتقل أحيانًا عددًا من المسلحين الفلسطينيين، (في إطار مهمتها لحفظ الأمن في مناطق سيطرتها)، وفق بيانات أمنية رسمية، وهو الأمر الذي (تستنكره) المجموعات والفصائل المسلحة، التي تؤكد في بيانات رسمية، أنها (لا تريد الاشتباك مع السلطة، وأن الوجهة الوحيدة لقتالها، هي الاحتلال).. ورغم أن السلطة لا تستخدم خطابًا مُعاديًا مُعلنًا للفصائل، يبدو أنها غير قادرة على فرض سيطرتها التامة على تنامي الظاهرة المسلحة، بدليل تصاعد المقاومة في الضفة الغربية على مدار السنوات السابقة.
●●●
والآن.. تجد المقاومة الفلسطينية في الضفة الغربية نفسها بين شقي الرحى.. بين عدو ينتهج سياسة الإبادة الجماعية في الأراضي المحتلة، ويريد اغتصاب ما تبقى من الأراضي الفلسطينية وطرد أهلها، وبين سلطة في رام الله، تُقاوم المقاومة، وتُخاطر على نحو غير مسبوق، بوضع نفسها في صدام مباشر مع الشعب، من خلال حملتها الأمنية، التي تُعد الأكبر منذ سنوات، ضد فصائل المقاومة في جنين شمال الضفة الغربية المحتلة.
ويمكن بوضوح مراقبة التعليقات الشعبية على مواقع التواصل الاجتماعي، لرصد حالة الغضب الشعبي المتنامية ضد السلطة وقيادتها، في خضم حملتها الأمنية التي تقتل وتُلاحق المقاومين والمدنيين في جنين.. إذ تُبدي هذه التعليقات في أغلبها، دعمًا كبيرًا لفصائل المقاومة، وتُندد بحملة أجهزة أمن السلطة ضد المقاومة، وتُجمع على اعتبارها خدمة للاحتلال، وسط تساؤلات عن تحرك السلطة، في وقت يسرع فيه الاحتلال ضم الضفة الغربية بكاملها للسيادة الإسرائيلية.. وما هتاف (الشعب يريد كتيبة جنين)، الذي تصدَّر مشهد المسيرات الشعبية المتلاحقة في جنين، سوى دليلًا على الوضع المنبوذ للسلطة، وأن جنين ومخيمها، يمثل حاضنة شعبية لا تنكسر للمقاومة وعناصرها.. بموازاة ذلك، اعتدت أجهزة السلطة في جنين، على مسيرة لأمهات الشهداء في المدينة، لدعم المقاومة والتعبير عن رفضهن لعمليات الاستبداد، التي تنفذها الأجهزة الأمنية ضد المقاومين.. وقد خرجت مسيرة حاشدة من ديوان التُركمان باتجاه مخيم جنين، وشاركت أمهات الشهداء في المخيم بالمسيرة الداعمة للمقاومة، وحاولن طرد عناصر السلطة، فيما اعتدت الأجهزة الأمنية على المسيرة، وألقت القنابل المسيلة للدموع على النساء المتظاهرات.
طوال السنوات الماضية، عمل الاحتلال الإسرائيلي على محاولة كسر هذه الحاضنة الشعبية، بتدمير منازل وتجريف الطرق وهدم المحال التجارية، فيما حاولت السلطة كذلك كسر هذه الحاضنة، ببث الإشاعات عن أفراد الكتيبة وعن المقاومين، لكن دوى جدوى.. سعت أصوات السلطة الفلسطينية إلى الترويج، أن المواجهة في جنين تستهدف عناصر من حركتي حماس والجهاد الإسلامي، وهي محاولة للتغطية على انتساب عناصر من كتائب شهداء الأقصى، المنبثقة عن حركة (فتح)، لمجموعات المقاومة المختلفة.. ويُبرز المراقبون، أن المقاومة في جنين وشمال الضفة الغربية، تضم عناصر من فتح، يُعتبرون بمثابة متمردين على السلطة، بل هم الذين فتحوا المجال للتأكيد العلني، لقضية تواجد عناصر من فصائل أخرى في مجموعات المقاومة.. وبحسب المراقبين، فإن مشكلة السلطة في جنين والشمال، أن قسمًا كبيرًا من (فتح) تمرد عليها وطلَّقها بالثلاثة، وهي لا تستطيع فعل الكثير بدون حاضنتها الشعبية.
كان شمال الضفة، تاريخيًا، معقل قوي وقاعدة جماهيرية صلبة لفتح، وما حصل خلال الأعوام الثلاثة الماضية، وتسارع بعد السابع من أكتوبر، أن هذه القاعدة الجماهيرية انفصلت عن السلطة، واصطفت تحت مظلة المقاومة.. وفي رأي المراقبين، فإن ذلك ما دفع بعض قادة الأجهزة الأمنية، إلى التحفظ على الحملة الأمنية في جنين، لأنهم يعلمون أنها مُخاطرة كبيرة على مستقبل السلطة، وقد تؤدي لانهيارها.. ويشدد المراقبون، على أن المقاومة في جنين وغيرها من مدن الضفة الغربية المحتلة، هي من كل أطياف الشعب الفلسطيني، وهي تحارب من أجل إسناد غزة، ومجابهة خطط الاحتلال وجرائمه، وهو ما يتسق مع هدف الشعب والمشروع الوطني الفلسطيني.
لذلك، فإن السلطة الفلسطينية ترتكب أخطاء قاتلة في حملتها الأمنية في جنين، مثل إطلاق اسم (حماية وطن)، في تشابه لمسميات العمليات الأمنية المرتبطة بالذهن الفلسطيني عن عمليات وسياسة الاحتلال، كما يرى الكاتب، محمد علان دراغمة، الذي أوضح أن مسمى العملية الأمنية (حماية وطن)، حمَّل المستوى السياسي صاحب القرار، والمؤسسة الأمنية والجهاز التنفيذي، ما ليس بمقدورهم القيام به، للدفاع عن مخاطر جمة تواجه الوطن، وتجاهل كل الظروف الموضوعية والذاتية المحيطة.. وشدد على أن الخطاب الرسمي للمستويات السياسية والأمنية في السلطة خلال العملية، لم يكن موفقًا، سواء من حيث لغة التحشيد، أو لغة الاتهامات، بأن المقاومين في جنين (خارجين عن القانون).
وقد يرتبط ذلك بتساؤلات المواطنين على مواقع التواصل الاجتماعي، حول: لماذا تنحرف أولويات السلطة عن الدفاع عن الأرض والمقدسات وصد هجمات المستوطنين ووقف مخطط الضم، بدلًا من تركيز أسلحتها وأجهزتها في ملاحقة المقاومين؟.
إن الهدف المُعلن للسلطة، بشأن مزاعم منع الفوضى والاقتتال والفلتان الأمني، أن يكون حلَّه سياسي وطني وليس أمنيًا، كما يؤكد مدير مركز مسارات للأبحاث والدراسات، هاني المصري، الذي حذر من أن اعتماد القوة يُفاقم الأمر.. إن على السلطة (أن تكف عن مساعيها لإثبات الجدارة للاحتلال وحكام واشنطن)، لإن نجاحها في قمع المقاومة سيُضعفها وسيُغضب شعبها، وفشلها سيُضعفها أكثر، ولن يساعد على عودتها لغزة.. إن على السلطة أن تُفرق تمامًا بين المقاومين والخارجين عن القانون، فالمقاومة يجب أن تستند إلى استراتيجية وقيادة واحدة وتخضع لهما، وليست مقاومة من أجل المقاومة بل لتحقيق أهداف وطنية.
لقد استنفرت السلطة أعلى مستوياتها السياسية والأمنية إلى مدينة جنين، لا لمواجهة (إسرائيل) ومستوطنيها، إنما للقضاء على كتيبة مخيم جنين، التي بقيت عصيَّة على جيش الاحتلال منذ تأسيسها قبل أربع أعوام.. وبوحدتي العمليات الخاصة، الأعلى جهوزية في أجهزة السلطة: (الكتيبة 101) التابعة لجهاز الأمن الوطني، و(كتيبة أسد) التابعة لجهاز حرس الرئاسة، وغيرها من الوحدات التي لم يكشف عنها بعد، تشن السلطة عمليتها العسكرية على مخيم جنين.. وتستعين في ذك بمئات العناصر المُلثمة، التي تحمل أسلحة الكلاشنكوف والـ M16، وعشرات سيارات الجيب الحديثة شديدة التحصين، بينما طائرات مسيرة إسرائيلية ترصد سماء المخيم.. يأتي ذلك، فيما تكشف بعض مخططات الاحتلال، عن نيته إلغاء السلطة وتحويلها إلى بلديات صغيرة، تُدير بعض القرى والبلدات، وهو ما يُعبر عن محاولات السلطة المستميتة، للنجاح في الامتحان الإسرائيلي، متوسِلة بقاءها كشركة أمنية في الأراضي الفلسطينية، كما يرى العديد من الفلسطينيين!!.
حفظ الله مصر من كيد الكائدين.. آمين.
0 تعليق