مايكل يونغ* - (مالكوم كير - كارنيغي الشرق الأوسط) 2024/12/18
سيكون تبني الحكومة المقبلة أو عدم تبنيها صيغة قديمة مقياسا مهما لمدى قوة "حزب الله".اضافة اعلان
* * *
عندما يحل شهر كانون الثاني (يناير)، حيث يفترض أن ينتخب لبنان رئيسًا جديدًا للجمهورية، سيحدد مصير بضع كلمات موقع لبنان اليوم، وقوة "حزب الله" النسبية، والمزاج السائد لدى مختلف الطوائف في البلاد. هذه الكلمات، كما يمكن لأي متابع للشؤون الداخلية أن يخمن، هي: "الجيش، الشعب والمقاومة".
وكانت هذه الصيغة قد أدرجت على مدى سنوات في البيانات الوزارية للحكومات كحل وسط بين من يدعمون الفكرة القائلة بأن احتكار استخدام القوة يجب أن يعود إلى الدولة اللبنانية وحدها، وبين إصرار "حزب الله" على أن سلاحه؛ أي سلاح المقاومة، يجب أن يحظى بالشرعية من الدولة. في ضوء ذلك، تجاهل الحزب، على مر السنين مطالب خصومه بضرورة توصل اللبنانيين إلى نوعٍ من التوافق حول استراتيجية دفاعية وطنية، وهو مصطلح اختزل فعليا دمج سلاح "حزب الله" في الدولة.
بعد أن مني الحزب بهزيمة قاسية في صراعه مع إسرائيل، وخسر الآن قاعدته الاستراتيجية في سورية إثر سقوط نظام الأسد، أعيقت إمكانيته لفرض إرادته على سائر شرائح المجتمع اللبناني. صحيح أنه ما يزال يحتفظ بسلاحه، ولكنه لم يعد يتمتع بقدرة كبيرة على تهديد محيطه كما فعل في ما مضى. يضاف إلى ذلك أن أيا من الطوائف اللبنانية، في غالبيتها، لم يعد مستعدا للرضوخ لحزب ينظر إليه على نطاق واسع بأنه أصبح في موقع دفاعي.
شكل المسعى الرامي إلى تبديد جميع مؤشرات الضعف ركيزة الخطابات الأخيرة التي ألقاها أمين عام "حزب الله" الجديد نعيم قاسم. فقد أكد أن الحزب يتعافى من "جراحاته" التي تكبدها نتيجة العدوان الإسرائيلي، وأن "المقاومة مستمرة"، وأن "هذا العدو لا يكبحه إلا المقاومة". ويبدو الأمين العام الجديد غافلا عن حقيقة أن الحزب فشل في ردع إسرائيل، التي ما تزال قواتها منتشرة في مناطق من جنوب لبنان، ناهيك عن منعها من تدمير مساحات شاسعة من البلدات والقرى والأحياء ذات الغالبية الشيعية. مع ذلك، يدرك قاسم ما هو على المحك. وما لم يتمكن الحزب من نسج وهم الانتصار، سوف تتداعى مبررات احتفاظه بسلاحه في إطار علاقته بالدولة اللبنانية، مثلما انهارت منذ فترة طويلة في أوساط فئات واسعة من المجتمع اللبناني.
حالما يُنتخب رئيس للجمهورية، سيحتاج لبنان إلى حكومة جديدة. وأثناء عمل القوى السياسية المختلفة على صياغة البيان الوزاري للحكومة، ستكمن إحدى العقبات الأولى التي ستعترضها في مسألة إعادة إنتاج ثلاثية "الجيش والشعب والمقاومة". ويبدو من شبه المؤكد أن عددا من المشاركين في الحكومة سيرفضون المصادقة مجددا على هكذا صيغة. هذا ما ستفعله "القوات اللبنانية" بالتأكيد، ومن الصعب تصديق أن أي رئيس حكومة سني سيوافق على هذه الثلاثية، خصوصا في ظل مناخ طائفي يبدو متجددا عقب سقوط بشار الأسد. لمَ قد يكون لدى السنة، الذين يشعرون بحيوية متجددة بعد عقود من هيمنة نظام قاده العلويون في دمشق بدعم من القوى الشيعية في المنطقة، أي دافع لتفويت فرصة تقليص هامش المناورة الذي يتمتع به "حزب الله"؟
إذا ما حصل ذلك، فما الذي يستطيع "حزب الله" فعله؟ تبدو فكرة نشر عناصره في الشوارع لترهيب خصومه غير واردة، إذ لم يعد أحد ممن يعادون الحزب في لبنان على استعداد لقبول مثل هذا التصرف. وقد اتضح ذلك في عدد من الاشتباكات التي وقعت في السنوات الأخيرة، بدءا من خلدة وشويّا، ووصولا إلى الطيونة والكحّالة، حيث بدا السكان المحليون مستعدين لمهاجمة عناصر الحزب بدلا من الرضوخ لمحاولات الضغط عليهم.
عوضا عن ذلك، قد يقرر "حزب الله" مقاطعة أي حكومة لا تتبنى صيغة "الجيش والشعب والمقاومة". ولكن، ماذا ستكون جدوى هذا القرار إذا ارتأى حليف الحزب، نبيه بري، عدم مجاراته؟ لا شك في أن بري يدرك أن الشيعة أصبحوا بمفردهم في لبنان، وأنهم انقطعوا إلى حد كبير عن إخوانهم في العراق وإيران، وبالتالي سيكون إقدام "حزب الله" على عزل الطائفة الشيعية أكثر فكرة سيئة للغاية. ولكن، هل يستطيع رئيس مجلس النواب عدم إظهار التضامن مع الحزب في هذه الحالة؟ ربما لا، غير أن موقف بري ليس قويا كما كان في السابق، وهو يواجه انتقادات داخلية ومعارضة متعاظمة من الخارج، ولا سيما من أعضاء في الكونغرس الأميركي، الذي سيشهد قريبا تنصيب دونالد ترامب رئيسا. وإذا سعى "حزب الله" إلى فرض مقاطعة شيعية للحكومة، فكل ما سيترتب على ذلك هو أزمة مفتوحة لن تُحل في وقت قريب، في وقت لم يعد بمقدور الطائفة الشيعية أن تتحمل فيه إلقاء اللوم عليها لتسببها بمزيد من الجمود في الدولة.
غالب الظن أن بري، وربما أي رئيس جمهورية مُحتمَل، بناءً على هويته، سيحاولان التوصل إلى تسوية بشأن صياغة البيان الوزاري. ولكن حتى هذا لن يكون سهلا. فأي رئيس وزراء سني لن يرغب في خسارة دعم طائفته من خلال تأييده سلاح "حزب الله"، فيما من المستبعد للغاية أن تكون "القوات اللبنانية"؛ الممثل الرئيسي للمسيحيين، أكثر مرونة في هذا الصدد، ناهيك عن أنه، في زمن الصحوة السنية، لن يتمكن أي رئيس وزراء، حتى نجيب ميقاتي إذا عاد إلى منصبه، من اتخاذ موقف أقل حزما من موقف المسيحيين.
كما سيكون للمجتمع الدولي أيضا رأي بشأن ما سيجري. سوف تراقب الولايات المتحدة، ومعظم دول الخليج العربي -ولا سيما السعودية والإمارات- عن كثب تصرف الحكومة المقبلة. وستنتظر هذه الدول أيضا مآل صيغة "الجيش والشعب والمقاومة" من أجل الحكم على ما إذا كان الساسة في لبنان على استعداد للتحرر من سيطرة "حزب الله". وسيكون رد الفعل اللبناني حاسما في تحديد النتائج حيال مسألتين أساسيتين للبلاد، هما: تنفيذ القرار 1701؛ وإعادة إعمار المناطق الشيعية.
حاول قاسم جاهدا، مرات عدة، التأكيد أن القرار 1701 ينطبق على المناطق الواقعة في جنوب الليطاني فقط، لكن هذا غير دقيق. فالقرار ينص على أن مجلس الأمن "يؤكد أهمية بسط سيطرة حكومة لبنان على جميع الأراضي اللبنانية وفقا لأحكام القرار 1559 (2004) والقرار 1680 (2006) والأحكام ذات الصلة من اتفاق الطائف، وأن تمارس كامل سيادتها، حتى لا تكون هناك أي أسلحة من دون موافقة حكومة لبنان ولا سلطة غير سلطة حكومة لبنان". ويدرك قاسم هذا تماما، ولذلك يحرص بشكل كبير على التشديد على ثلاثية "الجيش والشعب والمقاومة"، كي يتمكن من القول إن الحكومة أعطت غطاء شرعيا لسلاح الحزب.
تبرز بعدئذ مسألة إعادة الإعمار. والحقيقة أن "حزب الله" ليس في موقع يخوله اليوم خوض غمار خلافات سياسية داخلية تفاقم حالة الجمود. فبعد تهجير مئات آلاف الشيعة من منازلهم وعدم تدفق مساعدات كبرى لإعادة الإعمار، ستبقى الدولة اللبنانية على الأرجح هي المنسق الأساسي بشأن هذا الملف في المستقبل. وبالتالي، سيكون ما يحتاجه الحزب هو دولة تنشط بقوة وزخم لتوفير التمويل اللازم والشروع في إعادة الإعمار. ولكن إذا رأت الدول العربية، ولا سيما الخليجية منها، أن الرئيس والحكومة الجديدين ما يزالان يخضعان لسيطرة "حزب الله"، فلن يكون لديها أي حافز لمساعدة لبنان في هذه العملية. ولذلك، سيمتلك الرئيس والحكومة الجديدان ورقة ضغط قوية على الحزب، وسيتعين عليهما استخدامها لتقويض ركائز هيمنته.
تشغل مسألة إيران أيضا حيزًا كبيرًا من النقاش. بينما أعلن قاسم في كلمة له، مؤخرًا، أن طهران ستقدم مساعدات مالية لأولئك الذين خسروا ممتلكاتهم في الصراع ضد إسرائيل، تعد المبالغ التي وعد بها زهيدة مقارنة بحجم الدمار والتكاليف المُقدرة لإعادة الإعمار. وعلاوةً على ذلك، يبدو أن ثمّة سجالًا مثيرًا للانقسام إلى حد كبير يجري داخل إيران حول الأموال التي أنفقت على الاستراتيجية الإقليمية للبلاد، ولا سيما المبالغ الضخمة التي أهدرت في سورية. وحتى أنصار النظام الإيراني انضموا إلى جوقة الأصوات المنددة، ومن بينها الشيخ محمد شريعتي دهقان، الذي قال إن الخطة الإيرانية "بنيت على أسس ضعيفة". ونقلت صحيفة "نيويورك تايمز" عنه مطالبته بـ"اعتماد نهج جديد يعطي الأولوية لبناء تحالفات مع الدول بدلا من دعم الفصائل المسلحة، وإعادة تخصيص الأموال والموارد إلى الشعب الإيراني".
في ضوء ما سبق، يصبح من المستبعد، على نحو متزايد، أن ينخرط الإيرانيون بشكل واسع في عملية إعادة إعمار المناطق الشيعية في لبنان، وقد تضاءل هذا الاحتمال أكثر بعد أن خسرت طهران موطئ قدمها المهم في سورية. وإذا صح هذا التقييم، لن يكون من السهل أن يستعيد "حزب الله" مستوى الدعم الشعبي الذي كان يتمتع به سابقًا في أوساط الطائفة الشيعية، وسيكون من المستحيل تقريبًا أن يتمكن الإيرانيون وحلفاؤهم من إعادة إحياء السياسة الفاشلة المتمثلة في تطويق إسرائيل بحزام ناري. وإذا كان هذا الهدف بعيد المنال، فما قيمة صيغة "الجيش والشعب والمقاومة"؟ ليست الإجابة عن هذا السؤال واضحة للعيان على الإطلاق.
سوف يترقب كثر الاستحقاق الرئاسي لتقييم نقاط قوة "حزب الله" أو مكامن ضعفه. هذا أمر مفهوم، وإن كان عجز الحزب خلال السنتين الماضيتين عن إيصال مرشحه المفضل، سليمان فرنجية، إلى رئاسة الجمهورية قد أظهر بالفعل محدودية قدرته. ومع ذلك، ستكون نتيجة صيغة "الجيش والشعب والمقاومة" المعركة الأهم، لأنها ستحدد ما إذا كانت الطبقة السياسية اللبنانية مستعدة للاستمرار في القبول بوجود تنظيم مسلح فوق سلطة الدولة. وإذا وافق السياسيون على ذلك، فسوف يصطدمون بمعارضة شريحة أكبر من اللبنانيين الذين لا يريدون ذلك. أما إذا اتخذوا موقفًا غير معهود من هذه المسألة، فربما يتسنى للبنان أخيرًا تقويض أسس النظام المعطل القائم منذ انسحاب القوات السورية من لبنان في العام 2005.
*مايكل يونغ: مدير تحرير في "مركز مالكوم كير-كارنيغي للشرق الأوسط" في بيروت، ومحرر مدونة "ديوان" في كارنيغي المعنية بشؤون الشرق الأوسط. كان سابقا كاتبا ومحرر صفحة الرأي في صحيفة "ديلي ستار" اللبنانية، وينشر راهنا مقالا أسبوعيا في كل من صحيفة "ذا ناشونال" الإماراتية، وفي الموقع الإلكتروني "ناو ليبانون". وهو أيضا مؤلف كتاب "أشباح ساحة الشهداء: رواية شاهد عيان عن نضال لبنان من أجل البقاء" The Ghosts of Martyrs Square: An Eyewitness Account of Lebanon’s Life Struggle".
0 تعليق