دول الخليج.. تحول استراتيجي نحو التصنيع والابتكار

مصدرك 0 تعليق ارسل طباعة تبليغ حذف

عُرفت منطقة دول الخليج بثرواتها الغنية حيث كان النفط والغاز يغذيان اقتصادها عبر التاريخ بشكل رئيسي. واليوم، بينما يقود قطاع التصنيع تحولاً جذرياً في مختلف دول العالم، يسهم هذا القطاع في تحويل اقتصاد المنطقة من الاعتماد على الموارد إلى اقتصاد صناعي قادر على خلق القيمة والمنافسة عالمياً.
يشكل قطاع التصنيع في دولة الإمارات ما يقارب 54 مليار دولار سنوياً في الناتج المحلي الإجمالي غير النفطي وهو ما يشكل 14% من حجم الاقتصاد. وبالمثل، يشكل قطاع التصنيع في المملكة العربية السعودية 14.79% من الناتج المحلي الإجمالي. ويعكس هذا النمو في كلا البلدين اتجاهاً مستقبلياً في جميع أنحاء دول مجلس التعاون الخليجي، حيث بات قطاع التصنيع يشكل حجر الأساس في التنمية الاقتصادية، بشكل متصاعد.
ويستند هذا التحول الجذري إلى ثلاثة محاور مترابطة تعمل بشكل أساسي على إعادة تشكيل الهوية الاقتصادية لدول مجلس التعاون الخليجي: وهي: التحول نحو الاقتصاد القائم على الابتكار، الانتقال من الجهة المتلقية إلى الجهة المصنّعة في السوق، التوجه نحو بناء وتمكين القدرات بدلاً من الاكتفاء بخلق فرص العمل.
تلعب التكنولوجيا دوراً محورياً في تعزيز القطاع الصناعي في دول مجلس التعاون الخليجي، حيث تسهم في زيادة الكفاءة والإنتاجية، وتدعم التحول نحو اقتصاد قائم على المعرفة والابتكار.
أطلقت الإمارات «استراتيجية الإمارات للذكاء الاصطناعي» في أكتوبر 2017، بهدف الاعتماد على الذكاء الاصطناعي في الخدمات وتحليل البيانات بمعدل 100% بحلول عام 2031، والارتقاء بالأداء الحكومي وتسريع الإنجاز وخلق بيئات عمل مبتكرة. كما أطلقت وزارة الصناعة والتكنولوجيا المتقدمة في فبراير 2023 «مؤشر التحول التكنولوجي الصناعي»، بهدف تمكين الشركات ومساعدتها على التحول الرقمي وتطوير نماذج أعمالها.
وفي هذا الإطار أطلقت السعودية رؤيتها لعام 2030، حيث شهدت المملكة زيادة في عدد المنشآت الصناعية بنسبة 60% منذ إطلاق الرؤية في عام 2016، ليصل العدد إلى 11549 منشأة بحلول عام 2023. هذا النمو يعكس تحولاً نحو تبنّي التكنولوجيا المتقدمة في التصنيع، مما يعزز الإنتاجية والكفاءة.
مع استمرار تطور التكنولوجيا، يتعين على الشركات المصنعة في المملكة تبنّي الثورة الصناعية الخامسة، حيث تصبح التكنولوجيا أكثر ذكاءً، ويستفيد العمال من أدوات تعزز إنتاجيتهم بشكل غير مسبوق. كما تسعى دول الخليج إلى تعزيز دور التكنولوجيا في القطاع الصناعي، حيث أطلقت الإمارات «ميثاق تطوير واستخدام الذكاء الاصطناعي» بهدف تعزيز العلاقة بين الذكاء الاصطناعي والإنسان بشكل متناغم ومفيد، وإعطاء الأولوية لرفاهية الإنسان وتقدّمه. وتعمل دول الخليج على تطوير منظومة خصبة للذكاء الاصطناعي من خلال إنشاء بيئة محلية محفزة على تبنّي تقنيات الذكاء الاصطناعي، توفر التمويل والمعرفة والدعم الاستراتيجي لتسهم هذه الجهود في تعزيز التحول الرقمي في القطاع الصناعي، مما يدعم التنويع الاقتصادي ويقلل الاعتماد على الموارد الطبيعية، ويؤسس لاقتصاد مستدام قائم على المعرفة والابتكار.
وعلى صعيد المسار الثاني للتحول، والمتمثل في الانتقال من دور المتلقي إلى دور المصنّع في السوق، نجحت دول مجلس التعاون الخليجي في إعادة تشكيل سلاسل التوريد العالمية ووضع معايير جديدة في مجال التصنيع المتقدم. فقد استفادت هذه الدول تاريخياً من موقعها الاستراتيجي لتسهيل التجارة، لكنها بدأت الآن بالاعتماد على قدراتها الذاتية لتعزيز التصنيع المحلي وتطوير الحلول المبتكرة، بدلاً من الاعتماد الكبير على الواردات. ويعكس التحول الحاصل التطورات الملحوظة في القطاعات الصناعية، مثل ارتفاع أسعار النحاس بنسبة 25% في عام 2023. حيث تعاملت الشركات المصنعة في دول الخليج مع هذه التحديات من خلال تطوير قدرات تجهيز محلية واستخدام مواد بديلة، مما يؤكد تحولها من مجرد الاستجابة للمتغيرات إلى قيادة المبادرات المستقبلية.
وفي هذا السياق، تبنت دول مجلس التعاون تطبيقات الذكاء الاصطناعي بشكل متزايد داخل مصانعها. فقد أسهمت تقنيات مثل التنبؤ بالأعطال لتقليل التوقف المفاجئ، وأتمتة العمليات، وتحليل البيانات الضخمة في تحسين الكفاءة وزيادة الإنتاجية، إلى جانب رفع جودة وسرعة الإنتاج. ومن خلال هذه التطورات، عززت دول الخليج مكانتها كرائدة في التصنيع المتطور، حيث أصبحت مصانعها نماذج عالمية للتكامل بين التكنولوجيا والصناعة.
هذا التوجّه جذب اهتماماً عالمياً ملحوظاً، إذ تدفقت استثمارات أجنبية مباشرة بقيمة 47 مليار دولار إلى قطاع التصنيع في دول الخليج خلال عام 2023، متأثرة برؤى هذه الدول الاستراتيجية وتقدمها التكنولوجي المستمر.
أما المسار الثالث للتحول فيتمثل في الانتقال من التركيز على خلق فرص العمل التقليدية إلى بناء القدرات المتقدمة. اليوم، يوفر القطاع الصناعي مناصب عالية المهارة في مجالات مثل الهندسة، وإدارة التكنولوجيا، والبحث والتطوير، متجاوزاً الأدوار التقليدية المرتبطة بعمليات الإنتاج.
تتميز هذه الوظائف بتأثيرات مضاعفة تعزز النمو في قطاعات متعددة مثل إدارة سلسلة التوريد، والخدمات الفنية، والتصنيع المتقدم، ومن المتوقع أن يسهم القطاع الصناعي في خلق نحو أكثر من مليوني فرصة عمل بحلول عام 2030. وتسعى الاستراتيجيات الوطنية إلى تمكين العمال من اكتساب الخبرات اللازمة لمواكبة التكنولوجيات الحديثة، من خلال إنشاء مراكز تدريب متخصصة. تقدم هذه المراكز برامج تعليمية متقدمة في مجالات مثل الذكاء الاصطناعي والتقنيات الحديثة، مما يضمن تطوير قدرات القوى العاملة وتأهيلها لدعم التحول الصناعي المستدام.
ويرتكز التحول الصناعي في دول مجلس التعاون الخليجي على خصائص ومميزات جاذبة لا تستطيع سوى دول قليلة محاكاتها. حيث تتمتع المنطقة بموقع استراتيجي بين آسيا وأوروبا وإفريقيا، وإمكانية وصول لا مثيل لها إلى الأسواق. وإلى جانب صناديق الثروة السيادية والاستثمارات الخاصة القوية، تمتلك الدول الموارد الرئيسية لتمويل المشاريع الصناعية الضخمة. ويتم تضخيم هذه المميزات بشكل أكبر من خلال تطوير النظم البيئية الصناعية المتكاملة.
لقد أصبح التصنيع أمراً حيوياً لمستقبلنا كما كان النفط بالنسبة لماضينا. وأسهم ذلك بشكل رئيسي في إعادة تشكيل هويتنا الاقتصادية حيث حول دول مجلس التعاون الخليجي، من دول تستخرج الموارد إلى دول تصنع القيمة. ومع تسارع التحول العالمي في مجال الطاقة، تعمل الشركات المصنعة الإقليمية على تطوير حلول الطاقة المتجددة، والبنية التحتية للهيدروجين الأخضر، وتقنيات المدن الذكية، مما يعزز مكانة دول مجلس التعاون الخليجي كمركز عالمي رائد للابتكار الصناعي.

إخترنا لك

أخبار ذات صلة

0 تعليق