طلبت من شقيقتها (عطرة) تعطيها المساكات الخشبية، لتثبت بها ثوب أبيها، الذي بدأت تتلاعب به الرياح الشاتية، وشمس الضحى تتوارى خلف الغيوم، وتبدي مثل وجه حسناء خجول، تواريه شيلتها الشفافة، فيما أسند الأب ظهره على باب مراح الغنم، وضم كفيه بين فخذيه، وجلل أكتافه وصدره وقليل من البطن الملتصقة بعموده الفقري بالمصنف المكتّل، وهمّه من فخذيه العاريتين، خشية أن يراهما أحد، وعينه على ثوبه الوحيد، المنشور بين ثياب بنتيه.
نادى (يا غرَبة) ثوبي وأنا بوك حطي اللزامة، بكرة جمعة؛ لا ينفر وتخليني ضُحكة في ثُمّ الشامت، فنظرت إليه بعين الحنيّة، وقالت؛ والله لو نفر، لانفر ساقته لو اتكسّر، فطفرت من عينه دمعة ساخنة، لأنه تذكّر أمها التي تردّت العام من ركن العالية، وهي تنشر عذوق الذرة على سقف البيت لتشميسها، وسقطت على وجهها في جرين مَولِي، وكانت طيحتها إللي ما قامت منها.
استعاد وهو يغمض عينيه، تجاربه في الزواج، وكيف اضطر لفك الأولة، بسبب المرزا الذي نفّرها منه ومن البيت، وضحك عندما تذكر الثانية، وقال بينه وبين نفسه؛ الله اللي فكّني منها، كنت ما غير أترددها، تسلّم من شق وطرف على السارح والرايح، وتنهّد تنهيدةً مع تمتمة بمثل عتيق، كي لا يسمعنه البنات؛ (المزارع يبغي لها عافية، والنسوان حظوظ)، وأضاف؛ ما يعطي منهن إلا الله بنات فاطمة.
كانت (أم غربة) رحلت قبل عيد الأضحى الفائت بليلتين، آدميّة تاعى وتدّعي، وكأنها ملائكة، وبرغم الفضاء الصاخب حولهم، لا ينسمع لها حسّ، صوامة قوامة، ماتت بذراها في بطنها، وانكتبت لها الشهادة، وانكتب على أبو غربة الشقاء، وكان لديه قناعة بأن الذرى الذي لم يسعد برؤيته (ولد) وداهمته وساوس بأنه بيخرج من بطن أمّه المتوفاة في القبر، ولذا قضى ليالي عدداً، يزور المقبرة بعدما يهجع الناس، مُمنّياً نفسه؛ بسماع صوت بكائه من تحت الصِّلي، وربما يجد ما يرضعه، ويطلع لأن عمره وقت وفاة أمه تسعة شهور، وكان يضع خده اليمنى على تراب القبر، ويرصد الصمت المُطبق على فضاء المجنّة، كما يطلق عليها بعض الأهالي.
سأل نفسه، لو عاش وش كان سميته؟ ويجيب؛ كنت باسميه (حاضر) فالمرحومة كانت ما تفكها، ولكن بعدما ربي استحبّ فيها وفيه، باسميه (غايب) وأراد يخرج من حالة الهوجاس المؤسفة، فطلب من غربة؛ تجيب له الحناء اللي نقعه في الطاسة من البارح، وتحنّي شعر رأسه ولحيته، حدّه عاري، ردت عليه؛ أبشر، خلني أشبك ثوبك، وما لك إلا تشريب وتخضيب يجكر منه الفقيه والعريفة.
أقبل عليه (كندوس) وهو محتبي بمصنفه، كان يقبل يشوف الموت ولا يشوف وجهه، وعندما اقترب، سبقه بالكلام متسائلاً؛ من حصّب لك الطريق؟ ردّ عليه؛ رحّب سواة الأوادم ترى الترحيب نُصّ القِرى، قال؛ من متى قد رحبت وإلا ضيّفت يا الحاشف الناشف، ترطن بالجنيهات والريالات، وتسوّي نفسك ببّا؛ وجدك ما طلع لنا من الساحل إلا بزعبته، نشده؛ بتخليني قاعد عند القذان وريحة السفول اللي تعامي الطيور؟ فردّ عليه؛ جيزك من جيزي والا انت ضاري بالريافة لانك من بيت شياخة.
قال له؛ ودك تتفقد عمرك، وتقضي ديني؟ تمقّله بعينيه الغائرتين متدلية الأجفان، وقال؛ وشبك كلما احتركت قلت ديني ما ديني، فقال؛ سمعت انك بتعطي (غربة) (شويط المسلول) وأنا لي في ذمتك لي احد عشر مية، شوري عليك زوجني بنتك، واخلص مني ومنها؛ علّق؛ ما شكينا عليك لا أنا ولا بنتي، ولا بعد خرقت العصاة ايدها، فردّ عليه؛ مطالبة تضعف بأسك، وتدنّي رأسك، وتشرهك من ناسك، اعتق نفسك منها لو تبيع لباسك، فضحك أبو غربة وقال؛ انحا ثوبي فوق حبل الغسيل خذه تراه أنظف من ثوبك اللي كل من يشوفه عليك من الخلق؛ قال عنك، لا تلقى ولا تلتقي.
نشده؛ اعلمني انت جاي خطّاب وشاري عنوّة، والا مساوم؟ جاوبه؛ اللي يعجبك، تبغاها كذا، وإلا كذيه، فقبض بيده مما حوله من غبار وبعر؛ ونثره فوقه؛ قائلاً؛ صدق إنك ما تمزا ها هاك يحاح بعقلك، المرجلة بالنفوس والناموس ما هي بالفلوس يا كندوس، ولا يردك إلا جهدك، يا بو هذا الوجه المتعطّف كما بطن النفاس.
لم ييأس، وقال؛ الكلام أخذ وعطاء؛ باعطيك أختي، واعطني بنتك؟ قال أبو غربة؛ يعني بدلاء؟ فقال؛ إن كان ودك أتنازل عن الدّين، ولا أشتكي؛ علّق؛ اخس يا الرخيص، وأضاف، لو خذت أختك بتجيب واحد أنت خاله، ومن كنت خاله، ما زان حاله. وسومها في خشومها! ردّ عليه، أنا؟ مستفهما؟ قال؛ آجل أنا، فوقف وقال؛ تعقب يا الرمروم، والله إني أسواك واسوى عشرة من عيّنتك؛ فبغى يقوم عليه، وتذكّر أنه عريان، فقال؛ والله لو كان ثوبي فوقي، لا أدربيك في المسراب درباي البراميل، يا برميل الـ.......
0 تعليق