يقول الكاتب والشاعر الأيرلندي أوليفر جولد سميث: «عندما أقرأ كتابًا للمرة الأولى فذلك بالنسـبة لي كسب صديق جديد، و عندما أقرأ مجددا كتابا سبق لي قراءته فذلك يشبه لقائي صديقا قديما».
بهذه الاستهلال أطرق أبواب العلاقة الأزلية ما بين «الإنسان والكتاب»، شرط أن يكون هذا الكائن البشري مثقفًا أو مؤلفًا حتى يقرأ بل يمكن أن يكون مطلعًا شغوفًا محبا للقراءة، فمع هذه التوأمة يشكل الكتاب والإنسان حليفين لا يفترقان.
ومهما كان مزاج الإنسان الشغوف بحب القراءة فإنه لا يتنازل عن هذا الحب بل يزاد هذا الود والتواصل في عمق الأزمات، الحقب تتوالى والأشياء من حولنا تتغير، ولكن يظل الكتاب له رونقه وحضوره اللافت في حياة البشر بشكل عام، فهم يسمون به في أماكن راحتهم وفي محبسهم وفي كل الأماكن التي يرتادونها ويتنقلون بينها سواء كان هذا الترحال في الأرض أو الجو أو البحر.
إن من أجمل المقولات التي استرشد بها حول النظرة الواسعة للكتاب من أقوال الفلاسفة والكتاب والعباقرة اختصر قولا للمؤلف جورج ر.ر.مارتن الذي يقول: «يعيش القارئ ألف حياة قبل أن يموت.. أما الرجل الذي لا يقرأ فيعيش مرة واحدة فقط». أما زميله جانيت وينترسون القائل: «الكتب والأبواب شيء واحد، تفتحها وتنتقل إلى عالم آخر». أما المؤلف: إيما طومسون فيقول: «أعتقد أن الكتب مثل الناس، بمعنى أنها ستظهر في حياتك عندما تكون في أمسّ الحاجة إليها».
مهما أسرف البعض منا في الاستهانة بقيمة الكتاب والمكانة والأهمية التي وصل إليها خاصة بعد أن هجر الكثير من الناس كتبهم ومجلداتهم وشغفهم القديم للقراءة بسبب ما أفرزته التكنولوجيا من تطور متلاحق، إلا أن رائحة الكتاب تشدنا أحيانا إليه، ليس لأننا نعشق الأشياء العتيقة، ولكن هو سحر يتجلى في صورة ارتباط وطيد بين الإنسان والورق المطبوع في هيئة كتاب نرنو لقراءة ما فيه من فكر وفائدة.
من الحقائق التي تدهشك مهما حاولت أن تتنازل قليلا عن أفكارك القديمة وتمضي في طريق الحداثة هو أن كمية البشر التي تتدفق على أرض المعارض عندما تنطلق دورة جديدة لمعرض الكتاب سواء في وطننا الغالي أو في أوطان أخرى تشيع في ذهنك أشياء براقة.
لذا تسعى سلطنة عمان في حرصها على الحضور الدائم في المعارض العربية والأجنبية للكتاب هو دلالة أخرى على أن المؤلفات الورقية لا تزال قوية صامدة أمام كل المتغيرات التي نعتقد بأنها قد سحقت تحت أقدام الحداثة.
إذن الواقع يقول: إن الكتاب لا يزال قمرا منيرا في وجه التغيرات والمستجدات التقنية والتكنولوجية، فما أن ينتهي زمن محدد لمعرض أقيم في دولة معينة، حتى يلوح في الأفق موعد آخر في دولة أخرى وهذا الامتداد والتواصل هو جزء من ثقافة إنسانية لن تنقطع بل سوف تستمر إلى ما لا نهاية طالما كان هناك صناع حقيقيون ومؤلفون عباقرة يروق لهم طباعة كتبهم في أشهر دور النشر ذات المستوى العالي من الجودة والنقاء.
بعضنا حتى هذه اللحظة يتابع بصمت المستجدات التي أحدثتها التكنولوجيا الرقمية معتقدا أن زمن الطباعة الورقية للكتاب قد انتهت واندثرت وأن الماضي لم يعد له مكان أو زمان يحتفى به مع بزوغ فجر إصدار جديد.
وهذا التصور ينافي تماما ما نراه ونحس به من خلال متابعة الإصدارات الحديثة التي تتبناها الجمعيات والمؤسسات المدنية للمؤلفين والكتاب في شتى أنحاء العالم، وقد تتفاجأ من شخص لا تعرفه يفتخر كثيرا بأن لديه مكتبة في منزله تحتوي على مئات الكتب الورقية لأشهر صناع الكلمة والمحتوى الأدبي مؤكدا أنه يستطيع أن ينتقي ما يشاء من الإصدارات القريبة إلى قلبه في غضون لحظات بسيطة ومن أرفف المكتبة، دون الحاجة إلى تنزيل أو اشتراك أو معدات حديثه كالحاسوب وغيره حتى يصل على كتاب يريده إلكترونيا.
يقول رجل الاقتصاد والسياسة البريطاني بول سويني: «إذا شعرت وأنت تقلب الصفحة الأخيرة في الكتاب الذي تقرأه أنك فقدت صديقا عزيزا فاعلم أنك قد قرأت كتابا رائعا».
سواء تغيرت الحياة أم لم تتغير يظل الكتاب رفيقا دائما في عيون محبيه، بل أكثر من ذلك بكثير إنه يظل وهجا خالدا في ذاكرة الشعوب، وشعلة لن تنطفئ لمجرد أن رياح التغير تعصف بالأدوات القديمة، إذن الكتاب له علاقة ممتدة مع الزمن، رائحة الورق ولونه وحجمه وأشكال الأغلفة لملايين الكتب المرصوصة في دواليب خشبية أو معروضة في مكتبات محلية أو دولية هو نوع من الحماس الذي يدفعنا للتأمل والشغف نحو النظر والاقتناء والمقارنة ما بين كتاب قديم وآخر صدر حديثا.
هناك فرق شاسع ما بين الكتاب الرقمي أو ما يسمى «الإلكتروني»، والكتاب «الورقي»، ففي نظري ليس هناك مجال للمقارنة.
مواكبة العصر والتكنولوجيا أمر مفروغ من الحديث فيه، وواقع لا يحتمل التأجيل أو الإنكار، لكن لا يمكن في نظري أن أستبدل ما عشت عليه سنوات طويلة في غمضة عين.
وأخيرا يقول صاحب نوبل نجيب محفوظ متحسرا: «إن أكبر هزيمة في حياتي هي حرماني من متعة القراءة بعد ضعف نظري».
0 تعليق