ّدبي، الإمارات العربية المتحدة (CNN) -- نظرًا لكونها متفحّمة بالكامل، فإنّ مئات من هذه المخطوطات القديمة الهشّة ستتفتّت إذا حاول أحد فتحها، وأيّ أثر للكتابة عليها سيكون غير مقروء تقريبًا. فمخطوطات هيركولانيوم ما برحت ملفوفة، لكن بفضل أداة قوية أصبح محتواها الآن في متناول اليد.
فبواسطة الذكاء الاصطناعي والأشعة السينية عالية الدقة، تمكّن فريق من ثلاثة باحثين في عام 2023، من فكّ رموز أكثر من ألفي حرف من المخطوطات الملفوفة، وهو إنجاز مذهل كشف عن أول مقاطع كاملة من برديات نجت من ثوران جبل فيزوف في عام 79 ميلاديًا.
وتشكل هذه القطع الأثرية، التي استُردّت من مبنى يُعتقد أنه كان منزل والد زوجة يوليوس قيصر، كنزًا غير مسبوق من المعلومات حول روما واليونان القديمة.
ويأمل علماء الحاسوب الذين أطلقوا تحدي فيزوف، وهي مسابقة تهدف إلى تسريع عملية فك الرموز، أن يتم فك 90% من أربع مخطوطات بحلول نهاية عام 2024. والتحدي الرئيسي تمثّل بتسطيح الوثائق افتراضيًا، وتمييز الحبر الأسود عن البرديات المتفحّمة لجعل النصوص اليونانية واللاتينية قابلة للقراءة.
وقال برنت سيلز، أستاذ علوم الحاسوب في جامعة "كنتاكي" الذي يعمل على فك شفرة المخطوطات منذ أكثر من عقد: "الذكاء الاصطناعي يساعدنا على تعزيز قابلية قراءة أدلة الحبر. الأدلة على الحبر موجودة، لكنها مدفونة ومموهة داخل كل هذا التعقيد الذي يقوم الذكاء الاصطناعي بتبسيطه وتكثيفه".
ويعد هذا المشروع مثالاً مقنعاً على الفائدة المتزايدة من الذكاء الاصطناعي الذي وصل إلى مرحلة النضج في عام 2024، مع اعتراف لجنة "نوبل" بتطوير الذكاء الاصطناعي وتطبيقه في العلوم لأول مرة، حيث منحت جائزة الفيزياء لجون هوبفيلد وجيفري هينتون لاكتشافاتهما الأساسية في التعلّم الآلي، ما مهّد الطريق لكيفية استخدام الذكاء الاصطناعي اليوم.
ويُعد الذكاء الاصطناعي مصطلحًا غامضًا ومبالغًا فيه بكثير من الأحيان، ويهدف إلى محاكاة الوظائف المعرفية البشرية لحل المشاكل، وإكمال المهام. ويشمل الذكاء الاصطناعي مجموعة من التقنيات الحسابية، كاستخدام مجموعات البيانات لتدريب وتحسين خوارزميات التعلّم الآلي، وتمكينها من اكتشاف الأنماط، وإبلاغ التوقعات.
ويمكن لبعض أدوات الذكاء الاصطناعي أن تُشكّل مخاطر، مثل الأنظمة المستخدمة في التوظيف، والشرطة، وتطبيقات القروض التي تكرّر التحيّز، لأنها قد تكون مدرّبة على بيانات تاريخية تعكس أفكارًا متحيّزة.
وقد غيّر الذكاء الاصطناعي مشهد الاكتشاف العلمي، مع زيادة عدد الأوراق التي تمّت مراجعتها من قبل الأقران باستخدام أدوات الذكاء الاصطناعي، منذ عام 2015.
وتوقع أكثر من نصف العلماء البالغ عددهم 1،600 عالم الذين شملهم استطلاع دورية "Nature" أن تكون أدوات الذكاء الاصطناعي "مهمة للغاية" أو "ضرورية" لممارسة البحث. لكن الجمعية الملكية البريطانية، أقدم أكاديمية للعلوم في العالم، حذّرت من أنّ الطبيعة الغامضة للعديد من أدوات الذكاء الاصطناعي تحدّ من إمكانية إعادة إنتاج البحوث القائمة على الذكاء الاصطناعي.
وبالنسبة لسيلز، فإنّ هذه الأداة القويّة التي استخدمت بحكمة هي التي أدت إلى نتائج مذهلة.
ويُعتبر تحدّي فيزوف مجرد طريقة واحدة هزّ فيها المجال سريع الحركة العلم، وكشف عمّا هو غير متوقع في عام 2024. وتعمل أداة الذكاء الاصطناعي على تعزيز فهم العلماء لكيفية تواصل الحيوانات في أعماق المحيطات، ما يساعد علماء الآثار على العثور على مواقع جديدة في تضاريس نائية وغير مضيافة، وحل بعض أعظم التحديات التي تواجه علم الأحياء.
فك شفرة لغة الحيتان
يعلم الباحثون أنّ النقرات الغامضة التي تُصدرها حيتان العنبر تختلف لجهة الإيقاع والطول، لكن ما تقوله الحيوانات بهذه الأصوات لا يزال يشكّل لغزًا بالنسبة للآذان البشرية.
لكنّ التعلّم الآلي ساعد العلماء على تحليل نحو 9 آلاف تسلسل نقرات مسجّلة تمثّل أصوات حوالي 60 حوتًا من حيتان العنبر في البحر الكاريبي. وقد يمكن هذا العمل البشر من التواصل مع الكائنات البحرية يوما ما.
وقد فحص العلماء توقيت وتكرار النقرات في نطق الحيتان الانفرادي، وفي الجوقات، وفي تبادلات النداء والاستجابة بين بعضهم البعض. وعند تصوّرها باستخدام الذكاء الاصطناعي، ظهرت أنماط النقرات غير المرئية سابقًا في ما وصفه الباحثون بأنه أشبه بالصوتيات في التواصل البشري.
في المجمل، اكتشف البرنامج 18 نوعًا من الإيقاع (تسلسل الفواصل الزمنية بين النقرات)، وخمسة أنواع من الإيقاع الزمني، وثلاثة أنواع من الروباتو (التغيرات في المدة الزمنية)، ونوعين من الزخرفة - وهي "نقرة إضافية" تُضاف في نهاية النقرات في مجموعة من النقرات الأقصر.
وأفاد العلماء في مايو/ أيار أنّ هذه السمات يمكن خلطها ومطابقتها لتشكيل "مجموعة هائلة" من العبارات. ومع ذلك، فإن هذا النهج له حدوده. ففي حين أنّ التعلم الآلي بارع في تحديد الأنماط، فإنه لا يلقي الضوء على المعنى.
وتتمثل الخطوة التالية، وفق الدراسة، بإجراء تجارب تفاعلية مع الحيتان، إلى جانب مراقبة سلوك الحيتان التي يمكن أن تكون جزءًا مهمًا من كشف قواعد تسلسل نقرات حوت العنبر.
العثور على المواقع الأثرية
وفي الوقت ذاته، على الأرض، تعمل أداة الذكاء الاصطناعي على تعزيز البحث عن الخطوط والرموز الغامضة المحفورة في الأرض المتربة لصحراء نازكا في بيروـ حيث أمضى علماء الآثار نحو قرن من الزمان في اكتشافها وتوثيقها.
وغالبًا ما تكون هذه الرسوم الهائلة مرئية فقط من الجو، وهي تصوّر تصاميم هندسية وأشكالًا بشرية وحتى حوت قاتل يحمل سكينًا.
وقامت مجموعة من الباحثين بقيادة ماساتو ساكاي، وهو أستاذ علم الآثار في جامعة ياماغاتا اليابانية، بتدريب نموذج ذكاء اصطناعي بهدف اكتشاف الأجسام باستخدام صور عالية الدقة لرموز نازكا البالغ عددها 430 رمزًا والتي تم توثيقها حتى عام 2020.
وبين سبتمبر/ أيلول عام 2022 وفبراير/ شباط عام 2023، اختبر الفريق دقة النموذج الخاص به في صحراء نازكا، حيث قاموا بمسح المواقع الواعدة سيرًا على الأقدام وباستخدام الطائرات بدون طيار. ونجح الباحثون في النهاية في "التحقق الميداني" من 303 أشكال تصويرية جغرافية، ما أدى إلى مضاعفة عدد الرموز الجغرافية المعروفة تقريبًا في غضون بضعة أشهر.
وكان النموذج بعيداً عن الكمال، إذ اقترح 47 ألف موقع محتمل من منطقة الصحراء، التي تغطي 629 كيلومترًا مربعًا. وقامت مجموعة من علماء الآثار بفحص وتصنيف هذه الاقتراحات، محددة 1,309 مواقع مرشحة بـ"إمكانات عالية". وبحسب الدراسة، كان الباحثون يحددون "مرشّحاً واعداً" مقابل كل 36 اقتراحاً قدمها النموذج الذكي.
ومع ذلك، أشارت أمينة جامبا جانتسان، الباحثة وعالمة البيانات لدى قسم الآثار بمعهد "ماكس بلانك" لعلم الإنسان الجغرافي في يينا بألمانيا، إلى أنّ الذكاء الاصطناعي لديه القدرة على تقديم مساهمات ضخمة في مجال الآثار، لا سيّما في المناطق النائية والقاسية مثل الصحاري، حتى وإن كانت النماذج غير دقيقة تماماً بعد.
فهم لبنات بناء الحياة
وتساعد نماذج الذكاء الاصطناعي الباحثين أيضا على فهم الحياة على أصغر نطاق، أي سلاسل الجزيئات التي تشكل البروتينات، وهي اللبنات الأساسية للحياة.
بينما تتكوّن البروتينات من حوالي 20 حمضًا أمينيًا فقط، يمكن دمجها بطرق لا حصر لها تقريبًا، حيث تطوي نفسها في أنماط معقدة للغاية في الفضاء ثلاثي البعد.
وتساعد المواد في تكوين خلايا الشعر والجلد والأنسجة؛ فهي تقرأ الحمض النووي، وتنسخه، وتصلحه؛ وتساعد على حمل الأكسجين في الدم.
لعقود من الزمان، كان فك رموز هذه الهياكل ثلاثية البعد مسعى صعبًا ويستغرق وقتًا طويلاً ينطوي على استخدام تجارب مخبريّة دقيقة وتقنية تُعرف باسم علم البلورات بالأشعة السينية.
ومع ذلك، في عام 2018، ظهرت أداة تعتمد على الذكاء الاصطناعي لتغيّر قواعد اللعبة. وتتنبأ أحدث نسخة من قاعدة بيانات بنية البروتين "AlphaFold"، التي طوّرها ديميس هاسابيس وجون غامبر في شركة "Google DeepMind" بلندن، ببنية قرابة 200 مليون بروتين معروف من تسلسلات الأحماض الأمينية.
وتعمل قاعدة البيانات، التي تم تدريبها على جميع تسلسلات الأحماض الأمينية المعروفة والهياكل البروتينية المحددة تجريبياً، بمثابة "محرك بحث غوغل". وتوفر الوصول بكبسة زر إلى نماذج متوقعة للبروتينات، ما يسرع التقدّم في علم الأحياء الأساسي والمجالات الأخرى ذات الصلة، ضمنًا الطب. وقد استخدم الأداة ما لا يقل عن 2 مليون باحث حول العالم.
إلا أنّ هذه الأداة تعاني من بعض القيود، إذ أكدت محاولات تطبيق برنامج AlphaFold على البروتينات استناداً إلى تسلسلات متحولة، ضمنًا التسلسل المرتبط بسرطان الثدي المبكر، أن البرنامج غير مجهّز للتنبؤ بعواقب الطفرات الجديدة في البروتينات.
0 تعليق