مثلما استعصت أفغانستان، بكل جبال كابول وقندهار على القوة العسكرية الأمريكية، ودفعت البيت الأبيض إلى اتخاذ قرار إنسحاب قواته المُهين من هناك، تاركين خلفهم عتادًا عسكريًا، لم تحلم طالبان أن يكون في حوزتها يومًا، وبلا ثمن.. هكذا يبدو أيضًا الحوثيين في اليمن، الذين باتوا يشكلون تحديًا كبيرًا للقوة الأمريكية ـ البريطانية الرابطة في البحر الأحمر، وللضربات الإسرائيلية المتكررة على الحديدة وصنعاء، والتي لم تعد تُجدي نفعًا، في مقابل وابل الصواريخ والطائرات المُسيرة التي تسقط كل فترة، على تل أبيب وما حولها، وطالت مؤخرًا مطار بن جوريون.. وقد لا تكون الدروس المستفادة من الجبهات الأخرى للحرب قابلة للتطبيق في اليمن.. ومن الواضح أن الحوثيين، أيًا كان المسار الذي سيتم اختياره، سوف يحتاجون إلى تحمل ضربات أكثر خطورة، لأنهم يشعرون الآن بالجرأة.. وقد أصبحت حقيقة أن الملايين من الناس في وسط إسرائيل، يضطرون الآن إلى الهروب في الملاجئ كل ليلتين، ليست طريقة مقبولة للعيش.. وبدلًا من التباهي بهزائم العدو، فمن الأفضل أن نعتبر أن إسرائيل أصبحت في موقف ضعيف، بسبب القوة المتزايدة لأعدائها.
أطلق الحوثيون، المدعومون من إيران، صاروخًا باليستيًا آخر على إسرائيل، في رابع هجوم من نوعه خلال أسبوعين.. ويزيد الحوثيون من هجماتهم، ويظهرون أنهم لا يتراجعون أمام ضربات إسرائيل أو خطابها.. زار وزير الدفاع الإسرائيلي، يسرائيل كاتس، بطارية الدفاع الجوي (حيتس)، التي اعترضت الصاروخ، وقال، (لن نقبل بحقيقة، أن الحوثيين يواصلون إطلاق النار على دولة إسرائيل.. سنتعامل مع رؤوس الحوثيين في صنعاء وفي كل مكان باليمن).. وأدلى كاتس بتصريحات مماثلة، عندما تعهد بأن إسرائيل ستُضعف الحوثيين بشدة.. وقارن بين تصرفات إسرائيل على هذه الجبهة، وبين الطريقة التي حاربت بها حماس وحزب الله.. وقال إن إسرائيل قضت على زعماء حماس، إسماعيل هنية ويحيى السنوار، وزعيم حزب الله حسن نصر الله.. لكنه تجاهل الطبيعة القبلية التي تحكم المجتمع اليمني، وتجعلهم أكثر حساسية للغرباء، ومن الصعب اختراقهم، كما حدث مع حزب الله، وهو ما جعل مهمة الاستخبارات الإسرائيلية صعبة هناك، وتفتقد إلى تحديد بنك أهداف حوثية، يمكن أن تقدمها للجيش.
(لقد هزمنا حماس، وهزمنا حزب الله، وأعمينا منظومات الدفاع في إيران، وألحقنا الضرر بأنظمة إنتاجها، وأسقطنا نظام الأسد في سوريا، وألحقنا أضرارًا بالغة بمحور الشر، وسنوجه ضربات شديدة أيضًا لمنظمة الحوثيين الإرهابية في اليمن، وهم آخر من يقفون على قيد الحياة).. هكذا كان كاتز واضحًا في وعده بشأن الطريق الذي ينتظره.. كما تعهد رئيس الوزراء الإسرائيلي، بنيامين نتنياهو، بتكثيف الرد على الحوثيين.. وقال، إن إسرائيل ستتصرف بقوة وعزيمة وذكاء.. إلا أن الحوثيين لم يرتدعوا بهذه الكلمات، بل إنه، كلما أطلق المسئولون الإسرائيليون تصريحات جريئة، كلما أطلق الحوثيون المزيد من الصواريخ، لإظهار عدم تأثير هذه التصريحات عليهم.. فالحوثيون يدركون الصورة الاستراتيجية والتكتيكية، فهم يهاجمون السفن منذ عام، ولم يتلقوا سوى رد متواضع للغاية من القوات البحرية الأمريكية، التي تم نشرها كجزء من عملية تهدف إلى حماية الشحن، فيما سمي بـ (حارس الإزدهار).
ومن المهم أن ندرك ـ يقول سيث فرانتزمان، في جيروزاليم بوست ـ أن ما يفعله الحوثيون أمر جديد نسبيًا في المنطقة، فهم ليسوا دولة تسعى إلى إغلاق ممر مائي، بل هم جماعة تتصرف وكأنها دولة.. لقد نجحوا في الحد من قدرة العديد من الشركات على الشحن عبر البحر الأحمر.. كما واصلوا مهاجمة إسرائيل، مع إفلات نسبي من العقاب.. نفذت إسرائيل ثلاث جولات من الغارات الجوية ضد الحوثيين، واحدة في الصيف، وواحدة في الخريف، وواحدة مؤخرًا في ديسمبر.. لكن الضربات لم تردع الحوثيين.. وذلك لأنهم قووا شوكتهم في الحرب ضد السعودية لسنوات، بعد تدخل الرياض في اليمن عام 2015.. وكانت السعودية تمتلك العديد من أحدث الطائرات الحربية والتكنولوجيا، بفضل علاقاتها الوثيقة مع الولايات المتحدة، ومع ذلك لم تتمكن الرياض من هزيمة الحوثيين.
تحصَّن الحوثيون في المرتفعات الجبلية في اليمن.. وحظوا لسنوات بدعم ومشورة إيرانية، بشأن بناء الأنفاق لإخفاء الصواريخ وكيفية نشر الصواريخ بسرعة.. وقد طور الحوثيون برنامجًا للصواريخ والطائرات بدون طيار أكثر تطورًا من حماس وحزب الله.. إن حماس تختبئ في الأنفاق لإطلاق الصواريخ وتنفيذ الهجمات، ولكن عليها أن تتواجد في منطقة صغيرة نسبيًا من غزة.. أما حزب الله، فقد غطى جنوب لبنان ووادي البقاع بالأسلحة والصواريخ، ولكنه لم يتمكن من إخفاء صواريخه بعيدة المدى، وهو قريب جدًا من إسرائيل، بحيث يمكن للجيش الإسرائيلي الوصول إليه بسهولة.. أما الحوثيون، فيبعدون عن إسرائيل ألفي كيلو متر، الأمر الذي يتطلب تخطيطًا معقدًا لضربهم.
هناك حقيقة أخرى في هذه الحرب، وهي حقيقة لا يرغب أغلب من يدلون بتصريحات في إسرائيل الاعتراف بها.. فالضربات الجوية الدقيقة لا تؤدي عادة إلى الفوز بالحروب.. والواقع أن قوة النيران الدقيقة التي تشنها الطائرات الحربية ليست عصًا سحرية، وكثيرًا ما تخدع الجيوش وتجعلها تعتقد، أنها قادرة على إنجاز أشياء لا يمكن تحقيقها بالطائرات الحربية وحدها.. إن هذا الأمر واضح للغاية من فشل التحالف الذي قادته الولايات المتحدة ضد صدام حسين، في وقف هجمات صواريخ سكود على إسرائيل أثناء حرب الخليج.. وقد أطلق على ذلك (الصيد العظيم لصواريخ سكود)، ولكنه لم يكن عظيمًا إلى هذا الحد، ولم يُحقق النتائج المرجوة منه.. فقد كان نظام صدام ينشر صواريخ سكود في محافظة الأنبار، وخصوصًا في الصحراء، الأمر الذي جعل من الصعب على الولايات المتحدة وحلفائها العثور عليها.
الحوثيين يقومون بإخراج الصواريخ من الأنفاق في الجبال، ومن الصعب للغاية التنبؤ بها أو استباقها.. وقد يكون العثور على المخزونات والقضاء على قيادة الحوثيين أكثر صعوبة.. ولكن هذا لا يعني أنه من المستحيل هزيمة الحوثيين.. ولكن من الأفضل توخى الحذر، وتعلم الدروس الخاطئة من غزة ولبنان وسوريا وإيران.. لقد استمرت الحرب الإسرائيلية على غزة لمدة عام وشهرين، ولم تُهزم حماس بعد. تسيطر حماس على معظم أنحاء غزة، وتحتجز مائة رهينة، وتستمر في إملاء الشروط في محادثات الرهائن.. وحتى في شمال غزة، حيث تم إطلاق الفرقة 162 التابعة للجيش الإسرائيلي لمدة شهرين لمطاردة المقاتيلن في جباليا وبيت لاهيا وبيت حانون، ولا يزال التهديد قائمًا.. ولا يزال المقاتلون موجودين في بيت حانون، بالقرب من الحدود مع إسرائيل، على الرغم من العمليات التي استمرت لمدة عام.. ونكرر، قد لا تكون الدروس المستفادة من الجبهات الأخرى قابلة للتطبيق في اليمن
في لبنان، ضعف حزب الله، لكنه لا يزال موجودًا.. ربما يكون قد فقد قياداته والكثير من أسلحته، ولكن من الحماقة أن نتصور ـ يقول فرانتزمان ـ أنه اختفى. وإن كان حزب الله أصبح اليوم أضعف مما كان عليه في عام 2006، وذلك أمر مشكوك فيه!!.. فربما ينمو من جديد.. وعلى نحو مماثل، ادعى المسئولون الإسرائيليون أنهم مسئولون عن سقوط بشار الأسد، ولكن الواقع هو، أن الأسد سقط بسبب نظامه الفارغ، وقدرة المعارضة على التعبئة، والاستفادة من ضعف حزب الله.. وتبقى الدروس المستفادة من الضربات الإسرائيلية لإيران، لم تتضح بعد.
■■ وبعد..
فمنذ عام 2015، عند بدء التحالف العربي ضد الحوثيين في اليمن، وقد أصبح كتاب المواجهة مع هذه الجماعة مملوءًا بالتفاصيل، حتى آخر ورقة فيه، ولم يعد في الإمكان أن يسطر أحدًا جملة جديدة، يمكنها أن تردع هذه الجماعة، وكل ما يجري حاليًا، هو إعادة قراءة صفحات هذا الكتاب، التي لم تعد تُجدي فيه اتباع ما جاء فيه سابقًا من سبل للمواجهة، مع جماعة تعيش على سردية تشيع في المجتمع اليمني، مؤداها، أنها تنتصر للشعب الفلسطيني، وتقف مساندة لحماس في غزة، وللشعب الذي يواجه موجات الإبادة الجماعية ومحاولات طرده من وطنه.. وذلك ما يُزيد الأمر صعوبة على من يتعرض للحوثيين بالمواجهة، ويجعل كل من يقوم بذلك، خائنًا في نظر اليمنيين، الذين يرون أن الحل سهل، وفي اتفاق من عدة سطور، مفادها، وقف الحرب نهائيًا والانسحاب الإسرائيلي الكامل من غزة، وإدخال المساعدات الإنسانية للشعب الذي قتلته غارات الطائرات الإسرائيلية كما قتله الجوع والعطش وبرد الشتاء القارص، وتدمير البنية الصحية في القطاع المحتل.
حفظ الله مصر من كيد الكائدين.. آمين.