لم أستطع للحظة واحدة أن أمنع تفكيري وأنا أشاهد الجزء الثاني من فيلم «Gladiator» عمّا يحدث في وطننا العربي، فبينما تعجُ مُدرجات روما بالبشر المُولعين بالفُرجة، يغدو المتصارعون في الحلبة أشبه بثيران أو ديكة مهمتهم الأسمى تقديم العرض الأكثر إمتاعا ودموية.. هنالك حيثُ يُتركُ الضعفاء والمسحوقون في ساحة اقتتال غير مُتكافئة. ساحة موت لم يكن لهم يد في اختيارها!
تبحثُ الجماهير الغفيرة عن مُنتصر يصفقون له، فهم لا يريدون إلا أن يُشاهدوا عرضا مُذهلا، قبل أن تُقطع الأجساد وتُشرذم.. فكلما ارتفعت الوحشية تصاعد صياحهم، كمن يُعوض هزائمه وهشاشته الفردية.
في مقعد السينما لم أكن أنا أيضا أكثر من مُتفرج، يتلاعبُ المخرج ريدلي سكوت بمشاعري، لكني لم أستطع أن أوقف هيجان عقلي.. بدوتُ كمن يشد على نفسه أربطة وهمية في قطار الموت. بدت لي تلك الفكرة التي ينهضُ عليها الفيلم قاتمة، أعني استعمال «الغيظ» لتوليد الرغبة في القتال وبالتالي إمتاع الجماهير -وكأنّ هذا العالم لا ينمو ولا يتحول إلا على موجات من مُكثفة من العنف- إلا أنّ المفاجأة لم تكن كامنة فيما شعرتُ به من حنق، وإنّما لأنّ الحنق لم يكن مفهوما لابنيّ المجاورين لي، وكأنّ شعوري ينمُّ عن لا واقعية.. فهما يُسلمان تسليما قطعيا بأنّ كل الحضارات قائمة على العنف منذ الأزلية! وكأنّهما يستمدان فكرتهما من مقولة كارل ماركس: «العُنف مولد التاريخ».
لطالما قرأنا وجهات نظر الفلاسفة التي تشير إلى أننا في حالة صيرورة وتغيّر، لكن العنف هو العنصر الثابت والأبدي، مما يعني أننا لا نستطيع أن نقيس انحسار العنف بقوة العقل والتعليم والتنوير، وإلا فكيف تستشرس تلك الرغبة المحمومة، بل تطور أدوات إفناء الآخر وتعذيبه كما يتطور سوق التقنيات الحديثة!
تحت فوضى السحق العبثي، كان ثمّة ما هو عذب في الفيلم بجزأيه، وأظن لو سُئل أحدنا عمّا يتذكره من الجزء الأول الذي أنتج قبل أكثر من عقدين لأجاب: «ماكسيموس» ممررا يداه فوق محصول القمح، في رحلته إلى الآخرة، وكأنّ كل ما يتمناه الأبطال هو العودة إلى دفء البيت، وتلك الموسيقى التي تأخذنا إلى سماء شاهقة، فهو لم يحلم بمعركة يلتقي فيها بالخصوم بل حلم بالبيت.
وأكثر ما يشع في تجربة الجزء الثاني -حيث بقينا مشدودين لتلك اللوحة التي ترسم روما لساعتين ونصف الساعة- هو استعمال مقطع من ملحمة فيرجيل الشهيرة «الإنيادة»: «أبواب الجحيم مفتوحة ليلا ونهارا، سلاسة النزول، والطريق سهل، ولكن العودة ومشاهدة السماء المُبهجة، تكمن في هذه المهمة والعمل الجبار». إنّها قوة الشعر التي تخلقُ خلودا يربو على حياة المصارعين الذاهبين إلى الفناء والنسيان.
وبقدر إعجابي بتوظيف قصيدة فيرجيل التي كُتبت قبل مئات السنين، بجعلها أيقونة العمل التي تُلملم أطراف القصّة، فقد صدمني ابناي، فهما يعرفان فيريجل أيضا، لكن مصدر تلك المعرفة لم تكن الكُتب - التي أتخاصم معهما طوال الوقت ليقرآها- وإنّما عالم الألعاب.. إنّها المعرفة التي «تسيل» كما يرى زيجمونت باومان، فنحن في مرحلة تفكك المفاهيم بمعناها الصلب، ولذا فكل شيء يُسلع، الأمر لا يستثني العواطف والعلاقات الإنسانية والشعر!!
ولا أدري حقا إن كانت هذه «السيولة» الجذابة بهذا المعنى -والمتجاوزة لنا في آن- تصبُّ في خدمة الشُبان الجدد أم لا، إذ بقدر ما تطرح المعرفة الآن خيارات لامتناهية من أشكالها، فهي تسلبُ منا «العمق» كما أتصور، وأتمنى أن أكون على خطأ عندما أقول إنّه جيل يلمسُ سطح الأشياء ببراعة لكنه لا ينغمس فيها.. جيل يُسلم بأنّ العنف بدهي فلا يرغب بهز هذه اليقينيات أو دحضها وإنّما القفز عليها، لأنّ التقنية علّمته خاصية «التخطي»! ولذا فالعاطفة التي تُنمى على مهل، خدرة تحت أثقال النزعة الاستهلاكية المُطردة.
من المؤكد أنّ العنف مُحايث للتاريخ، وإلا لما انتقل من إنسان الكهف البدائي كعدوى لعينة ليُصاحب مصارعي الحلبة، وصولا للإنسان المتحضر في أبهى عصوره، ولكن ألا ينبغي أن تطرح الأجيال الجديدة الأسئلة وإن بدت بدهية: لماذا ينمو العنف كالعفن، ليقودنا للطرق الأكثر تطرفا ورعونة.. لماذا يبدو ككائن خرافي لا يُشبع نهمه شيء؟!
هدى حمد كاتبة عمانية ومديرة تحرير مجلة نزوى
0 تعليق