إن الديمقراطية مفهوم سياسي يهدف إلى تمكين الأفراد من المشاركة في صنع القرار وتحديد مصيرهم من خلال آليات مثل الانتخابات والحريات المدنية والتعبير عن الرأى ووجود دور واضح ومؤثر لمنظمات المجتمع المدنى؛ هذا هو المفهوم الإيجابى للديمقراطية الغربية الذى هو صنيعة النظام الرأسمالى الليبرالى. بينما "حصان طروادة" هو تعبير يُستخدم للإشارة إلى شيء يبدو غير ضار ولكنه يحمل في داخله وبين طياته نوايا خبيثة أو تهديدات، هذا المفهوم يعود إلى الأسطورة اليونانية التي تتحدث عن استخدام الإغريق لحصان خشبي كوسيلة لاختراق مدينة طروادة، وهنا تتشابه الديمقراطية فى الدول الشرق أوسطية وبخاصة فى الدول العربية مع حصان طرواده؛ وهذا مايمكن أن نطلق عليه "المفهوم السلبى للديمقراطية" وبالتحديد عندما تكون المجتمعات غير مؤهلة لهذه الديمقراطية، ونحن هنا لسنا بصدد الحديث عن ما ومن المسئول عن عدم تأهيل مجتمعاتنا العربية لهذه الديمقراطية. وفي سياق النقاش حول ما إذا كانت الديمقراطية فى المجتمع العربى يمكن اعتبارها “حصان طروادة”أم لا يجب النظر إلى عدة جوانب أهمها: الديمقراطية مفهوم مركب: إن الديمقراطية تعتبر مفهومًا مركبًا بل ومعقدًا حيث يتداخل فيه العديد من العوامل الاجتماعية والسياسية والاقتصادية، كما إنه لبناء ديمقراطيات حقيقية يجب أن تستند إلى مبادئ العدالة والمساواة واحترام حقوق الإنسان ولكن شريطة أن تتماشى مع طبيعة المجتمع الذى تطبق فيه بحيث تراعى فيه دينامية المجتمع وسيرورته ومكوناته وتتباعد فيه عن المحاصصة الفئوية أوالطائفية كما تعمل فيه على ترسيخ مبدأ الدولة الوطنية والقومية، كما يجب أن تكون هذه الديمقراطيات قادرة على معالجة القضايا الاجتماعية والاقتصادية بشكل فعال، كما يجب أن تعمل على توفير بيئة آمنة للمواطنين للمشاركة في الحياة السياسية بل وتصل بهم فى نهاية المطاف إلى المشاركة فى إدارة شئون الدولة، وأن من أهم شئ فى الديمقراطيات الحقيقيىة أن يكون الحاكم الحقيقى والمسيطر فى المجتمع هو القانون فقط، وأن يكون الشعب مؤهل لذلك. الديمقراطية الغربية: بالنظر إلى بداية الديمقراطية والحديث عنها فى الغرب وبخاصة أوروبا فنجد أن الديمقراطية التى جرت فى أوروبا كانت لدى اليونان في التاريخ القديم، وتواصلت بعد ذلك عند الرومان بصيغ متعددة، ثم أعيد إحياؤها في أوروبا في عصور النهضة والتنوير والصراع مع الملكيات والكنيسة التي استمرت قرونًا حتى وصلت الديمقراطية للعصر الحالي في أوروبا والغرب، بعدما أصبحت قيادة العالم فيهما على المستويات كافة، ثم بدأ التبشير بها والتشجيع عليها وبخاصة بعد إنهيار الإتحاد السوفيتى بأيديولوجيته الاشتراكية التى كانت تعمل على تطبيق الشيوعية حيث اعتبر الغرب أن مهمة نشر الديمقراطية الغربية مهمةً دوليةً بل هي أشبه بالسيف المصلت على رقاب دول العالم كافة؛ كرافد مهم وأساسى من أساسيات وروافد العولمة التى أسس لها الغرب وذلك حتى يتمكن من الهيمنة الأيديولوجية والاقتصادية على العالم بآثره. حيث أن الديمقراطية هي جزء من الخيال والإبداع الممنهج والمصطنع من الغرب تاريخيًا وسياسيًا وفنيًا وفكريًا، ولذلك تجدها في غالبية الإنتاج الإبداعي الغربي كجزء وثيق الصلة بكل شيء، فتجدها في الشعر والقصص والروايات والأفلام وغيرها من أنواع الإبداع الأخرى، كما يعلمونها للأطفال في الصغر وتحميها المؤسسات في الكبر كما يصورون لنا، وعلى سبيل المثال لا الحصر تجد أعمالًا دراميًا محكمة تنتهي صراعاتها وتعقيداته المتشعبة، وتنفك عقدتها الكبرى وتتجلَّى حبكتها الدرامية على أن الديمقراطية هي الحل وهى البديل الأمثل والبديل لكل الشعوب على الكرة الأرضية حتى وصل الأمر بالقول بأن الديمقراطية الليبرالية هى نهاية التاريخ كما قال فوكوياما. لذلك زرعت فى بقية شعوب العالم المطالبة بالديمقراطية بغض النظر عن طبيعة هذه الشعوب ومكوناتها وفئاتها المختلفة، فالديمقراطية هى أداة بشرية بصناعة غربية تستخدمها حيثما تجد الحاجة إليها فتحولت الديمقراطية مع الهيمنة الغربية وإنتهاء ثنائية القطب بين الغرب والشرق إلى لاهوت مقدس يجب أن تقام شعائره فى جميع بلدان العالم وإن هذه الشعائر تقرها الدول الغربية بالطريقة التى تريدها وفى الوقت التى تحدده وتحت إشرافها، فلقد استخدمتها الولايات المتحدة الأمريكية ودول الحلفاء لاحتلال العراق واستخدمتها الجماعات المسلحة والحركات الانفصالية لفرض رأيها إيمانا منها بالدفاع عن الحرية والديمقراطية فى الحروب بالوكالة. الديمقراطية العربية: إن الديمقراطية العربية في عصرنا الحالى هي مالئة الدنيا وشاغلة الناس وملهمة المثقفين والمفكرين، وحلم المنظرين، وأداة الإنتهازيين، ولعبة السياسيين. إلا إنه فى حقيقة الأمر أصبحت الديمقراطية العربية ليست طريقٌ للعدالة أو وسيلة لتحقيق المساواة أو أداة لنشر القيم النبيلة، بل أصبحت وعلى نطاقٍ واسع المجال هي أوضح الأمثلة بل وأجلها وضوحًا على ما يمكن تسميته بالمفهوم الإيجابى المسلح أي المفهوم الفكري النبيل الذى يستخدم السلاح المشروع ضد الخصوم أيًا كانوا هؤلاء الخصوم، سواء أكان ذلك في السياسة أم الاقتصاد أم فى الإدارة أم غيرهما فى كافة المجالات فى المجتمع، وقد يكون هذا السلاح هو التخوين أو التهويد أو التشريد أو التشهير أو الإفصاح أو الإفضاح أو التشويش أو التعتيم...إلخ، وقد يصل هذا السلاح إلى سلاح قتل حقيقى يستخدمه المتناحرون ضد بعضهم البعض. وتختلف الديمقراطية العربية عن الديمقراطية الغربية فى أن الديمقراطية الغربية بنيت على سلسلةٍ طويلة كما تقدم من تطور الفلسفة ومفاهيمها وتطور المجتمعات وصراعاتها في السياق الحضاري الغربي، ولهذا من السهولة الحديث عن عباراتٍ خالدةٍ لفلاسفة غربيين تحدثوا عنها كثيرًا وفصلوا في مفاهيمها وعلاقات هذه المفاهيم بعضها ببعض، وكذلك الحديث عن تطورها التاريخي بين اليونان مرورًا بالرومان، وصولًا للعصور الحديثة في النهضة والتنوير والعصر الحالي، وهو ما لا يوجد مثله لدى السياقات الحضارية الإنسانية الأخرى، بينما لا تزال إشكالية الديمقراطية فى الفكر العربى تتخللها إشكاليات متعددة ومعقدة كإشكاليات التعريف وإشكاليات النموذج والتطبيق وإشكاليات التيارات الفكرية المتباعدة، بالإضافة إلى ثمة بنية سلطوية سكونية ترفض مفاهيم الحداثة والفرد والمجتمع المدنى بالإضافة إلى ولاءات قبلية وطائفية وعشائرية وعائلية تعيق بناء المواطنة وسيادة القانون. الواقع الفعلى للديمقراطية الليبرالية:الديمقراطية أصبحت في عصرنا هذا طريقا لكسب الشهرة والجاه والصولجان على مستوى الأفراد والحكومات، واتخذتها بعض الأنظمة الشمولية فرصة لتمرير مخططاتها وتنفيذ مآربها، وما تسعى لتحقيقه من أهداف ونوايا على المدى القريب والبعيد، وتكون هي في مأمن من توجيه التهم والإتهامات إليها، وإثارة الشكوك والشبهات بشأن ممارساتها وتحركاتها، وفي الوقت نفسه تحظى بدعاية وسمعة طيبة في الأوساط المحلية والدولية، ولكن مهما طال الخداع والتضليل، فستنكشف أهدافها ونواياها آجلًا أو عاجلًا. وهناك من الدول الكبرى التي تتشدق وتفتخر بأنها من دول الديمقراطيات العريقة، نراها سرعان ما تتنكر لتلك الديمقراطية وتتخلى عنها في أحلك الظروف، عندما تتعارض أو تتضارب مع مصالحها وأهدافها، وما قامت به أميركا والدول الأوروبية الأخرى بحجة محاربة الإرهاب في بلدانها، وما اقترفته من انتهاكات صارخة في أماكن متعددة من هذا العالم، وخصوصا في سجون غوانتنامو في كوبا، وأبوغريب في العراق، وفي سجونها السرية في بعض الدول الأوروبية وغير الأوروبية، وما جرى من جراء غزو أفغانستان والعراق من قبل أميركا من كوارث وويلات ودمار ومآس، وما ارتكبته وترتكبه من مجازر ومذابح بحق الأبرياء هناك، بالإضافة إلى دعم ومساندة الكيان الصهيوني، وما يرتكبه من أعمال وحشية وبربرية بحق الأبرياء من أبناء الشعب الفلسطيني المظلوم، وأخيرًا وليس آخرا استخدامها للجماعات الإنفصالية فى سورية التى تنتمى إلى الاسلام السياسى ــــ والاسلام بعيد منهم كل البعد ــــ فى الوصول إلى الحكم وإسقاط نظام عائلة الأسد الذى له ماله وعليه ماعليه، وماتقدم هو أكبر دليل وخير برهان على التعدي على الديمقراطية وانتهاك حقوقها ومكتسباتها. الديمقراطية العربية.. حصان طروادة "شواهد وأدلة" بحجة الديمقراطية تفككت مؤسسات الدولة العراقية بالكامل بعد تنفيذ خطة "اجتثاث البعث" التي تركت آلاف الكفاءات دون عمل وفتحت الباب أمام الفوضى بدلًا من بناء نظام ديمقراطي حقيقي، وقامت الولايات المتحدة بتطبيق نظام محاصصة طائفية، مما أدى إلى ترسيخ الانقسام بين السنة، والشيعة، والأكراد؛ غذت تلك الانقسامات الطائفية صراعات مسلحة مستمرة وأسفرت عن ظهور تنظيمات متطرفة كـ "داعش"، الذي استفاد من الفراغ الأمني والسياسي الذي خلفه الاحتلال الأمريكي، وفى ليبيا بعد سقوط نظام القذافى ترتب على ذلك فراغ أمني أدى إلى نشوء عشرات الميليشيات المسلحة ونشوب نزاعات مسلحة تهدد حياة المدنيين يوميًا، وفي اليمن تجسدت التناقضات بين الشعارات الغربية وممارساتها الفعلية التي أخذت بُعدًا آخر أكثر تعقيدًا ورغم الإدعاءات بالدعم الغربي لـ "التحول الديمقراطي"، لم تحظَ الأزمة اليمنية بالاهتمام الكافي من الدول الكبرى، خاصة في المرحلة الأولى من الصراع، ومع تصاعد الحرب منذ مارس عام 2015، واصلت الولايات المتحدة والدول الأوروبية تقديم الدعم العسكري واللوجستي لكل الأطراف، وفي السودان استُغلت أزمة دارفور لتقسيم البلاد، مما أدى إلى انفصال الجنوب دون تقديم دعم كافٍ لاستقراره، لتغرق المنطقة في صراعات وإنقسم السودان على نفسه، ثم صبحت سوريا مثالًا صارخًا على استغلال شعارات الحقوق والحريات في تحريك احتجاجات شعبية منذ عام 2011، ثم تحول الدعم الإقليمي والدولي للجماعات الإرهابية والفصائل المسلحة إلى أداة لتأجيج الصراع السياسي والعسكري، ورغم مزاعم دعم التحول الديمقراطي، كانت الخطوة الكبرى تمكين كيانات مثيرة للجدل من السلطة، والبدء في إعادة رسم المشهد العام في البلاد، وفق إملاءات تصدر من خارج الحدود في الختام، يمكن القول إن الديمقراطية يجب أن تحافظ على مفهوم الدولة الوطنية كمايجب أن تُمارَس بشكل صحيح وإلا أن تؤدي إلى تدمير الشعوب بدلًا من تعزيزها؛ إذ يجب أن تكون هناك إرادة حقيقية للتغيير وإصلاح الأنظمة السياسية لتحقيق العدالة والاستقرار دون تدخل خارجى طامع. حفظ الله الأوطان.. حفظ الله مصر
0 تعليق