القانون الدولي بين الإمبريالية والتحرير

الغد 0 تعليق ارسل طباعة تبليغ حذف
كريس كاربنتر*‏ - (تقرير واشنطن عن شؤون الشرق الأوسط) 19/12/2024
في 21 تشرين الثاني (نوفمبر) 2024، ‏‏أصدرت "المحكمة الجنائية الدولية" مذكرات اعتقال -بتهمة ارتكاب جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية- في حق رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو ووزير الدفاع الإسرائيلي السابق يوآف غالانت. ولما كانت المحكمة تفتقر إلى ذراع تنفيذية خاصة بها، فإن مذكرات الاعتقال تلزم جميع الدول الأطراف في "نظام روما الأساسي"، وهي 124 دولة في المجموع، باعتقال نتنياهو وغالانت في حال دخل أي منهما أراضيها. وجاء هذا الإعلان في أعقاب الدعاوى القانونية المتزايدة ضد الجرائم التي ترتكبها إسرائيل في غزة وأماكن أخرى، بما في ذلك قرار "محكمة العدل الدولية" الأخير القاضي بأن الاحتلال الإسرائيلي غير قانوني وقضية جنوب إفريقيا المستمرة ضد إسرائيل بتهمة الإبادة الجماعية في غزة.‏اضافة اعلان
‏من المؤكد أن مثل هذه التطورات القانونية تؤدي وظيفة رمزية قوية، وتشير إلى العزلة المتزايدة التي تواجهها إسرائيل على مدى عام من حرب الإبادة الجماعية التي تشنها على الشعب الفلسطيني. ولكن، في مواجهة الفظائع الإسرائيلية المستمرة في غزة والضفة الغربية ولبنان -وكلها كانت ممكنة بفضل الدعم الذي لا يتزعزع على ما يبدو من الولايات المتحدة- يبدو أن هذه القضايا تؤكد فقط على محدودية القانون الدولي. إذا كانت صلاحياته تقتصر فقط على إصدار البيانات والأوامر غير القابلة للتنفيذ، فما هي قيمة القانون بعد كل شيء؟‏
على مدى عقود، كشفت قضية فلسطين عن جاذبية القانون الدولي المستمرة -وعجزه البائن على حد سواء. وقد لاحظ العديد من المراقبين أن المناشدات الموجهة إلى القانون الدولي كانت منذ فترة طويلة حجر زاوية خطابي للنضال الفلسطيني. وليس من الصعب معرفة السبب: إن إسرائيل هي دولة تأسست -وتستمر في الوجود- على الانتهاك الصارخ لمبادئ القانون الأساسية. ومع ذلك، وسط كل القضية المُحكمة وكاملة الأركان ضد الاستعمار الإسرائيلي لفلسطين، ظل هذا الاستعمار قائمًا وازداد كثافة بلا هوادة. وعلى الرغم من أن القانون ما يزال يحتفظ بوضوح بجاذبيته، إلا أن فشله الواضح في تحقيق أي قدر من العدالة المادية ترك الكثيرين وهم يتساءلون عن الغرض الذي يخدمه، إن وجد مثل هذا الغرض أصلًا.‏
إن القيود الواضحة المفروضة على تطبيق القانون الدولي في البيئات الاستعمارية هي أكثر من مجرد هفوات أو أوجه قصور في نظام عالمي. إنها في الحقيقة سمات هيكلية تعكس الأصول الإمبريالية للنظام. وبينما كان يتطور في عالم تهيمن عليه القوى الإمبريالية الأوروبية، بالكاد كان القصد أن يُطبق القانون الدولي بشكل عام وقوانين الحرب بشكل خاص على الجميع على قدم المساواة. وقد استخدم فقهاء القانون الأوروبيون خطابات العرق و"الحضارة"، التي خدمت لتطبيع التراتبات الهرمية الإمبريالية، لتبرير الاستثناءات الاستعمارية لمعايير السلوك "المتحضر". ولم تقتصر مثل هذه الاستثناءات على الكتابات النظرية: لقد نشأت من وحشية الغزو الاستعماري ودعمت هذا الغزو على حد سواء. وقد نص هذا التراتب الهرمي الحضاراتي العنصري على مجموعة من القوانين التي تحكم السلوك بين الأوروبيين فحسب، بينما أيد استخدام العنف الساحق، وحتى الإبادة الجماعية ضد السكان الخاضعين للاستعمار باعتبار ذلك "عادلاً وقانونيًا". وكان هذا التراتب الهرمي سمة أكثر من كونه تناقضًا -فقد سمح بالتفاعل "المتحضر" بين القوى الإمبريالية، مع تسهيل الغزو، والمراقبة الشُّرَطية، وحكم أولئك الذين يعتبرون أقل شأنًا.‏
إذا كان القانون الدولي قد تطور كخادم للاستعمار الأوروبي، فليس مصيره أن يظل كذلك. لقد شهد القرن العشرون جهدًا غير عادي -وناجح جزئيًا- بذلته الشعوب المستعمَرة لتحويل القانون إلى أداة للتحرير. وكما تلاحظ الباحثة نورا عريقات في ‏‏كتابها "العدالة للبعض‏‏"، فإن القانون ليس له معنى ثابت ومحدد. إنه يكتسب معنى عندما تستخدمه مختلف الجهات الفاعلة، ونتائجه هي نتاج التنافس والسلطة. وبينما أوجدت حركات ودول التحرر الأفريقية والآسيوية وغيرها مكانًا لها على المسرح الدولي في منتصف القرن العشرين، فقد سعت إلى انتزاع القانون الدولي والمؤسسات الدولية من أيدي قوى الإمبريالية، متجاوزة حتى أصول النظام نفسه. وعندما أصبحت الدول التي تم إنهاء استعمارها تشكل أغلبية الجمعية العامة للأمم المتحدة، أنتج هذا المسعى جهودًا قانونية جديدة ضد الاستعمار والفصل العنصري، من جنوب إفريقيا إلى فلسطين وما وراءها.
ومع ذلك، ما يزال العمل على إنهاء استعمار القانون الدولي غير مكتمل. ومع استمرار ميل ميزان القوى العالمي إلى شمال الكرة الأرضية، فإن هناك كفاحًا شاقًا يجب أن يُخاض ويستمر. ومع ذلك، في ضوء هذا التاريخ، لا ينبغي أن يُنظر إلى القانون الدولي على أنه نظام متماسك في المجمل يعاني من إخفاقات عرضية، بل يُفضل النظر إليه على أنه ساحة معركة بين -وأداة في خدمة- المشاريع الاستعمارية وتلك المناهضة للاستعمار.‏
لقد أظهر رد فعل الولايات المتحدة على مذكرات الاعتقال التي أصدرتها "المحكمة الجنائية الدولية" في حق نتنياهو ووزير دفاعه كل غضب القوة الإمبريالية التي ترى أدواتها الخاصة للهيمنة وهي تنقلب ضدها. لقد دفع احتمال وجود قانون دولي عالمي حقيقي القادة الأميركيين إلى التدافع لدعم نمط "العدالة" الإمبريالي ذي المستويين. ولا تمكن رؤية البيان المقتضب للرئيس جو بايدن، الذي رفض مذكرات الاعتقال وأي "تكافؤ" بين إسرائيل و"حماس"، إلا في ضوء ازدواجية المعايير الاستعمارية. إن وضع "حماس" في فئة مختلفة نوعيًا، على الرغم من الدمار الأكبر بما لا يقاس الذي أوقعته إسرائيل بالفلسطينيين، ليس أقل من دعوة إلى الحكم على المستعمِر والمستعمَر على أساس معايير منفصلة وغير متساوية. ‏
‏ولم تكن هيئة تحرير ‏‏صحيفة "الواشنطن بوست"‏‏ أقل وضوحًا في هذا الصدد حين أصرت في افتتاحية نشرت في 24 تشرين الثاني (نوفمبر) على أن "المحكمة الجنائية الدولية" مؤهلة فقط لمحاكمة المجرمين في "روسيا والسودان وميانمار". وقالت الصحيفة إن إسرائيل (على الرغم من رفضها المستمر لمحاسبة مجرمي الحرب لديها)، يمكنها التحقيق في أفعالها والحكم على نفسها. ومن الواضع أن العدالة هنا، بطبيعة الحال، بعيدة عن النقطة -إن الهدف هو حماية قانون دولي إمبريالي؛ قانون يعمل كأداة للهيمنة الأميركية.‏
‏اليوم، يمر مفهوم القانون الدولي نفسه بأزمة. بينما تجد نفسها عالقة بين تاريخها الإمبريالي وإمكانياتها العالمية، وعاجزة عن وضع حد لواحدة من أعظم الفظائع في عصرنا (ناهيك عن النظام الاستعماري الطويل الأمد الذي أدى إليها)، تبدو مؤسسات القانون ولغته جوفاء بطريقة مرعبة. وتبدو الولايات المتحدة، بصفتها الحارس المعيّن ذاتيًا لحماية النظام الدولي، غير قادرة بشكل متزايد على إدارة تناقضات النظام، في حين تقوم قوتها الإمبريالية المستمرة بمنع القانون من تحقيق أهدافه المعلنة.‏
‏هل القانون الدولي إذن مجرد أداة للأقوياء، يجب التخلص منها عندما لا تخدم مصالحهم؟ ليس تمامًا. كما يوضح تاريخ الحركات المناهضة للاستعمار، يمكن للقانون أن يكون أداة قوية في حشد الدعم للتحرير وفضح نفاق الإمبريالية. لكن القانون لا يستطيع أن يفعل هذه الأشياء بمفرده. من دون حركة أوسع، وجهد بكامل الطاقة لوضع القانون في خدمة عالم متحرر، ستظل العدالة حبرًا على ورق. لا يمكن للقانون الدولي أن يحقق هذه العدالة تلقائيًا أو بمفرده، ولن يفعل. إنه أداة مهمة، ولكن فقط كعنصر واحد من عناصر مشروع سياسي أوسع. ولا يمكن سوى لرؤية واضحة للتحرر أن توجه القانون نحو مثل هذه الغاية.‏

‏*كريس كاربنتر Chris Carpenter: طالب جامعي يدرس التاريخ في جامعة جورج واشنطن.‏
*نشر هذا المقال تحت عنوان: International Law Between Empire and Liberation

إخترنا لك

أخبار ذات صلة

0 تعليق