حان الوقت لنتخيل لبنان من جديد

صحيفة عمان 0 تعليق ارسل طباعة تبليغ حذف

لم أزر سوريا منذ 14عامًا. وبعد سقوط الرئيس بشار الأسد، لم أطق الانتظار قبل أن أقوم برحلة الساعتين في السيارة من بيروت إلى دمشق لأشهد نهاية الدكتاتورية التي استمرت لأربعة وخمسين عامًا. ولما وصلت بعد خمسة أيام من الإطاحة رأيت بهجة آلاف السوريين وهم يحتفلون بالحرية في أضخم ميدان بدمشق مثلما رأيت الذعر الأليم على وجوه من يبحثون عن أحبائهم في سجن صيدنايا سيء السمعة.

لقد ترك انتصار المتمردين أثرًا في نفسي أنا الآخر. فقد أنهى نظام حكم سبق أن احتل بلدي، لبنان، على مدى ثلاثة عقود حتى عام 2005، وكذلك أثر في نفسي انهيار المحور الإيراني الذي اتخذنا رهائن حقًا منذ ذلك الحين من خلال جماعة حزب الله اللبنانية التي كانت أقوى وكلاء طهران المقاتلين.

الآن يواجه اللبنانيون فرصة تاريخية سانحة لبلدهم لكي لا يكون ساحة معركة وإنما يصبح أخيرا أرضا مشتركة، أي دولة موحدة وقادرة وذات سيادة. ومهما تكن جسامة التحديات، ومهما تكن أهمية الدعم الأجنبي، فإنني على يقين بأن مصير لبنان إنما هو في أيدينا. وستكون الخطوة الكبيرة الأولى لنا هي انتخاب رئيس في تصويت برلماني مقرر اليوم الخميس بعد سنتين من فراغ المنصب بسبب شلل سياسي.

لم تنظر سوريا قط، في ظل حكم الرئيس الأسد وفي ظل حكم أبيه حافظ الأسد من قبله، إلى لبنان باعتباره بلدًا مستقلًا، فظلت تتدخل بوصفها قوة احتلال منذ 1967 في انتخاباتنا، وتقوض الحكومات التي نختارها، وترسخ الفساد، وتهدد خصومها اللبنانيين وتعتقلهم وتغتالهم ـ حسبما يشك كثيرون.

وعندما رحل السوريون أخيرًا بعد عشرين سنة، إذ بحزب الله يحل تدريجيًا محل آل الأسد بوصفه وسيط السلطة الرئيسي في لبنان. أصبحت الجماعة عمودا أساسيا في نفوذ المحور الإيراني الذي ضم الحوثيين في اليمن وحماس في غزة والميلشيات في العراق، وكانت بمنزلة جسر بري بين طهران وبيروت من خلال استعمال سوريا ساحةً خلفية لتمرير الأسلحة والمخدرات.

يفتح سقوط حكم الأسد في سوريا الباب لإقامة علاقات مع سوريا على أساس الندية، ومن شأنه أن يسمح لحكومة لبنانية جديدة بتخفيف أزمة اللاجئين التي يعاني منها البلد، فاليوم يقدر عدد السوريين المقيمين في لبنان بمليون ونصف المليون، بما يجعلهم ربع سكان لبنان، وهم الآن يواجهون إمكانية العودة. كما يرجح أن تفكك المحور الإيراني في تخفيف قبضة حزب الله على السياسة اللبنانية.

غير أن لبنان يواجه مشاكل عصيبة حقا، من قبيل التعافي من الخراب الذي تسببت فيه حرب إسرائيل مع حزب الله مع فرض اتفاقية وقف إطلاق النار الهشة، واستعادة السيادة مع إحياء المؤسسات المتجمدة التي أضعفها الفساد والمحسوبية والأزمة الاقتصادية المدمرة، والتغلب على الطائفية في مجتمع لا يزال مستقطبًا بسبب الحرب الأهلية التي دارت في الفترة من 1975 إلى 1990.

سوف يقتضي التعامل مع هذه القضايا جيلا جديدا من القادة السياسيين غير المرتبطين بصراعات الماضي ودعما قويا من المجتمع الدولي، بدءا بالولايات المتحدة. ولو أن أولوية إدارة ترامب الجديدة هي السلام والاستقرار في الشرق الأوسط، فعليها أن تتحول من الرؤية التي يحركها الأمن وحده ـ أي أمنها وأمن إسرائيل ـ إلى رؤية تدعم الديمقراطية وتقرير المصير والسيادة، وتشمل الفلسطينيين.

على مدار السنين، تغيرت مواقف اللبنانيين من حزب الله. فلفترة طويلة، رأى الكثيرون أسلحة حزب الله ضرورية للمقاومة المشروعة ضد الاحتلال الإسرائيلي حتى انسحابها في عام 2000. ولكن على مدى العقدين الماضيين، قاومت المجموعة في الغالب رغبة العديد من اللبنانيين في السلام والإصلاح.

فقد أدين ثلاثة من عناصر حزب الله في اغتيال رئيس الوزراء رفيق الحريري في عام 2005، ويعتقد أن الجماعة وراء مقتل عدد من المعارضين، برغم نفيها لتورطها. وقد ورطت الجماعة لبنان في حروب مدمرة مع إسرائيل وأكدت مرارا هيمنتها على السياسة الوطنية بالقوة، ما أفقد البلد قدرته على تشكيل حكومة قادرة. ودفع بلدنا أيضا ثمنا باهظا لتآكل حزب الله. في أعقاب هجوم حماس على إسرائيل في السابع من أكتوبر، بدأت الجماعة تشن هجمات صاروخية على قواعد إسرائيلية، وفتحت ما أطلقت عليه «جبهة دعم» لغزة. وكان الانتقام الإسرائيلي الأخير من حزب الله وحشيا، إذ أدى إلى قتل أكثر من أربعة آلاف شخص، وتشريد أكثر من مليون شخص، وتدمير الزراعة والإضرار بقرابة مائة ألف منزل.

ولقد قدَّر البنك الدولي الضرر الاقتصادي المذهل الذي وقع على الاقتصاد بالفعل بما لا يقل عن 8.5 مليار دولار. لقد لقي أكثر من مائة وستين من المسعفين وعمال الإنقاذ مصرعهم، وكذلك عشرات من العاملين بالصحافة. وقد غضب الناس من الموت والدمار، ونبهت القوات الإسرائيلية السكان إلى البقاء خارج أكثر من ستين قرية في الجنوب. واحتمالات انسحاب القوات وتسليم حزب الله لترسانته، بحسب ما دعته إليه اتفاقية وقف إطلاق النار وقرارات الأمم المتحدة، تبقى موضع تساؤل.

والسبيل الوحيد للمضي قدما هو تحقيق انسحاب إسرائيلي كامل، مع حل جميع الميليشيات في لبنان. ولقد علمتنا السنوات الماضية أن قوة حزب الله تعني ضعف لبنان، وليس ضعف إسرائيل.

تمثل إعادة بناء بلدنا حاجة ملحة. وسوف تكون إعادة هيكلة قطاعنا المصرفي الذي لا يكاد يعمل والشؤون المالية لدولتنا المفلسة ضرورة ملحة، وذلك بجانب إصلاح قضائنا. ويجب أن تكون «المساءلة» هي الكلمة الأساسية في المرحلة القادمة. فنحن مدينون بذلك لضحايا انفجار الميناء في عام 2020 الذي دمر مساحات شاسعة من المدينة وقتل مائتين وخمسة وثلاثين شخصا على الأقل. ونحن مدينون بذلك لمن اغتيلوا أو اختفوا على مر السنين ولجميع من فقدوا مدخراتهم في أكبر انهيار مصرفي في التاريخ الحديث.

غير أن التحدي الأهم أعمق من ذلك: فقد تركتنا حربنا الأهلية الطويلة مثقلين بمجتمع منقسم، وطوائف يهيمن عليها الخوف من بعضها البعض وتركتنا لنظام تقتسم فيه السيطرة على أسس دينية تخدم شهية أمراء الحرب إلى السلطة وليس على أساس التمثيل الشامل.

ولدينا الآن فرصة للتغلب على انقساماتنا وتقديم مثال لما تعنيه الديمقراطية حقا في منطقة تهيمن عليها دول قوية ومتجانسة عرقيا أو دينيا إلى حد كبير من قبيل إسرائيل وتركيا وإيران المحيطة ببلاد الشام العربية المنقسمة والمتنوعة ثقافيا. يمكننا أن نفعل ذلك من خلال إنشاء دولة حديثة تحتضن التنوع وتحمي الحرية - وهو النموذج الذي شهدناه بنجاح نسبي بين تأسيس لبنان الحديث في عام 1920 واندلاع الحرب الأهلية في عام 1975. علينا إذن أن نعيد تصور هذا البلد اليوم.

قبل وقت قصير من اغتياله في عام 2005، كتب الصحفي اللبناني سمير قصير أنه «عندما يزهر الربيع العربي في بيروت، فإنه يبشر بموسم الورد في دمشق». وما شهدته في العاصمة السورية الشهر الماضي جعلني أعتقد أن كلماته قد تحققت أخيرا، وإن يكن بالعكس.

فقد بدأ الورد يتفتح في دمشق. ولعله دعوة للربيع في بيروت.

إخترنا لك

أخبار ذات صلة

0 تعليق