تزاحمت الصور والمشاهد في ذهنه، فلم يدر بمن يبدأ، والمنادي ينادي على صاحب كلمة يوم المسرح العربي، في مهرجان المسرح العام في العاصمة العمانية مسقط. لعله ترك تداعيات الذاكرة، وتداعيات الوطن الذي يحمله، لمنح صوته التركيز في قراءة النص. لكن هل سيكون ذلك ممكنا فعلا أم ستخرج مع كلماته مشاعر الفنان والإنسان، القادم من فلسطين، المتعرضة للاستباحة كما لم تتعرض من قبل؟!
بدايات نور العين والسمع، ذلك الطفل الذي ولد في مخيم للاجئين ودرس في مدارس الأونروا، والمسرحية الأولى التي شاهدها في حياته كانت في مخيم فلسطيني. «سبعين عاما وأنا أتنقل من مخيم لآخر، وفي كل مرة كنت أحمل كتبي ونصوصي المسرحية أينما ارتحلت أو رُحلْت لأبدأ من جديد، على أمل أن يتحقق الحلم بالعودة والحرية، وعندما عدت إلى وطني، الذي بات أكبر سجن عرفه التاريخ، تابعت درب الآلام الكبير كما تابعته في الشتات، فقد ظل المسرح وحده ينقذني من غربتي ووحدتي وقهري. كنت أحمل خشبتي على ظهري وأتنقل بين مئات المواقع في القرى والمخيمات، أتوحد مع من يعانون مرارة العيش والقهر والتمييز، واستبداد الاحتلال. أدركت حجم الظلم الذي تعرض له زملائي المسرحيون والفنانون في المعازل التي فرضت عليهم، عايشتهم في قتالهم بصدورهم العارية ليكون لهم مسرح، ولتكون لهم حرية التنقل والتعبير، وحرية الوصول إلى المعرفة المسرحية والتعلم، والوصول إلى المهرجانات والندوات وتبادل الخبرات».
يستذكر فتحي عبد الرحمن رحلته بعبارات قليلة، تاركا لنا تتبع مراحل حياته المسرحية، التي عايشنا جزءا منها بعد عودته إلى فلسطين منتصف التسعينيات، بعد طول نفي وتشرد. ولنا أن نشهد على فتحي عبد الرحمن «سيزيف من سيزيفات» المسرح العربي والعالمي، وهو يحمل الصخرة إلى أعلى الجبل، لا ليرتاح بل ليبدأ من جديد.
قلت له، ونحن مرة في المسرح الشعبي، الذي أعاد بناءه في مخيم الأمعري: أما تعبت أستاذي وأنت في كل عرض تحمل أعباء كثيرة، وتتابع التفاصيل؟ هل يبقى لك وقت تتفرغ فيه فعلا للإخراج؟ يبتسم «أبو كرم». تكفينا ابتسامته، لكن يفاجئنا في كل عرض جديد بالإبداع. وفتحي عبد الرحمن، الذي أضاف للمسرح الأردني والفلسطيني، له فضل على كثيرين، ولعل واحد منهم. كنت محررا ثقافيا ناشطا في الكتابة عن المسرح، حين جاء من عمان، وأشرف على عدة دورات وورش في الكتابة والنقد قبل 3 عقود، صحيح أنه كان يتفهمني عندما أغفو قليلا، كوني قادما من عملي في التعليم والتحرير، لكنه كان يؤمن بضرورة الاستثمار بتطوير النقد المسرحي، فغرفت من خبراته، وخبرات آخرين أجلهم جميعا، فلم نكن لنصل إلى هذا المستوى لولا الدعم والتشجيع، والفنان عبد الرحمن كان حجر الزاوية، حيث استضافني في الفرقة كأنني عضو بها، وهناك صرت أعيش عوالم المسرح قبل اكتمال العرض.
لعلها الأمانة فمن يحملها؟!
واليوم يخاطب فتحي عبد الرحمن المسرحيين العرب في الاهتمام بالمضامين التي تحتاجها أمتنا لأنه يؤمن بالغد المشرق:
المسرحيون الشباب، المندفعون الشغوفون الحالمون بتوحيد المجتمع الإنساني والانتصار للحقيقة والعدالة والجمال، هل يكفي أن أدعوهم للقتال في سبيل تحقيق أحلامهم، وهم يشاهدون منذ أشهر طويلة كيف تتحكم مجموعة من المجانين المتطرفين بمصائر الشعوب...؟ هل أدعوهم للتمسك بالمثل الأعلى والمبادئ وقد بات العالم أكثر غموضا؟! إلام أدعوهم وقد اكتشفوا أن التربية في أوطاننا تكرس الأمراض وتحولهم إلى عجزة؟ إلام أدعوهم وقد شاهدوا بأم أعينهم ملايين الشباب في العالم العربي كيف ينتفضون ويصرخون ضد التمييز والعنصرية والحروب الظالمة، وهم غارقون بمشاعر اليأس والعجز والصمت؟ ماذا أقول لهم وهم يشاهدون آلاف الرجال وقد خرجوا من السجون أشبه بالكهول بعد أن خطف الاستبداد والدكتاتورية زهرة شبابهم لأنهم نادوا بالحرية؟ خبرتنا تقول ونحن نقترب من نهاية القوس: لا خيار لكم ولنا، لا تتراجعوا ولا تتخلوا عن أحلامكم وعن إصلاح العالم، فأنتم ونحن لسنا عميانا، ما زلنا نبصر الكوارث والبؤس والآلام في العالم وفي أوطاننا، لا تتركوا البشاعة والخوف تثنيكم عن الدفاع عن الإنسان، عن الأوطان، عن الأحلام، فحياةٌ قصيرة، مفعمة بالحرية والكرامة والحب، أفضل من حياة لا نهاية لها ولا طعم، المهم أن نحاول وإن كان في ذلك المستحيل».
ومن منطلق شكل المسرح ومضمونه، يرى عبد الرحمن: المسرح مخيالنا، وإبداعنا، ومتعتنا، وجنوننا، وشرفتنا التي نطل منها على العالم لنطرح الأسئلة، ولنتعلم الحكمة والحب ونقرأ التاريخ ونستشرف المستقبل. أما الهدف عبر المسرح فهو لتضميد جراح أرواحنا، وأرواح المكلومين المتألمين المحرومين المخذولين، ننتصر لحريتهم وكرامتهم وحقوقهم، ننتصر لكل ما هو جميل وأصيل وعادل، ونزرع بذور الأمل.
في كلمته لنا، نحن المسرحيين العرب، يذكرنا بعالمية الفنون والمسرح: ممتنا لمنفاي الذي أتاح لي فسحة التعلم والاكتشاف والتجريب، وأتاح لي كذلك أن أعرف أكثر عن: ستانسلافسكي وبرخت وارتو وجروتوفسكي، ومن بعدهم بيتر بروك وكانتور وباربا وتشاينا. وفي كلمته يتعمق لدينا الوفاء لجهود السابقين: ممتن للمخرجين والممثلين والمسرحيين المبدعين العرب، الذي جايلتهم أو تتلمذت على أيديهم وهم كثر، الذين ساروا في ذات الدروب الشيقة والشاقة، حاملين مشاعل الإبداع، الذين أناروا أمام جيلنا الدروب وارتقوا بذائقتنا وحرفتنا وعلومنا المسرحية، ومنحونا الثقة والقدرة على الاستمرار، وحفزونا على تجديد أفكارنا ورؤانا وأدواتنا الفنية. أولئك الذين ضحوا كثيرا من أجل فنهم وقضايا شعبهم، ومن أجل الجمال.
فتحي عبد الرحمن منظمة وفاء، لذلك لم ينس الجمهور المسرحي: ممتن لجمهور مسرحنا العربي، الذي كان حضوره وتفاعله وتقديره للمسرح، يبعث الدفء في قلوبنا ويسعدنا مثلما نسعده، يشاركنا الأمل والتأمل في أحوالنا، يشاركنا الاحتجاج والغضب على انتكاساتنا وتراجعنا وتخاذلنا عندما تتراجع أمتنا،.. الجمهور الذي يرفض القبح والإسفاف والظلم والأفكار الظلامية وكذب السياسيين.
ومن دلالات كلمته في المسرح العربي، يركز عبد الرحمن على الدور الإنساني من خلال التربية العميقة لا الوعظ قائلا: «المسرح علمنا الإصغاء والتأمل، علمنا التحاور وقبول النقد وتنظيم الاشتباك. ليس مسرحا ذلك الذي لا ينتصر لقضية الإنسان، لقضية الجمال وقبول الاختلاف والتنوع والتعددية».
ولم ينس الفنان الفلسطيني فتحي عبد الرحمن الحديث عن تطوير الفن المسرحي، كون الرسالة تحتاج له، وتحتاج لمواكبة العصر دون الزهد بخبرات من سبقونا: «علينا أن نجدد ونبتكر في أفكارنا ونصوصنا وعروضنا وتقنياتنا المسرحية،.. والتجديد لا يعني أن نقتل آباءنا ومعلمينا ومن أخذنا عنهم المسرح، فأولئك من أضاءوا مشاعل المسرح، من ضحوا وقدموا ومهدوا الطريق أمام من أبدعوا وأكملوا من بعدهم».
وقد ركز على التكنولوجيا: «تمكّن المسرح الذي ابتكره الإنسان منذ خمسة وعشرين قرنا من التأقلم مع الشروط الجديدة التي أوجدتها هذه التكنولوجيا، وهو يستغلّ الكثير من وسائطها في تقنياته، كاستبدال الديكور بالإضاءة، وتحديد مداخل الممثل ومخارجه دون وجود الكواليس، واستخدام الخرائط والصور والتسجيلات الصوتية والمرئية وغيرها من عشرات الاستخدامات الجمالية والوظيفية. إن المضيّ في المسرح يتطلب مواكبة هذه الاكتشافات وتجريبها في المسرح وعدم تجاوزها وإهمالها».
الأدب من الحياة ولها، والمسرح كذلك رسالة وقضية، ومن بينها قضية بلاده فلسطين، التي وجد نفسه يؤكد حضورها في كلمته بل ويختتم بأسئلته في ظل حرب الإبادة والتهجير، التي تعني إنهاء الاحتلال، عبر توعية الأجيال الجديدة، عمن يتحكم في هذا العالم وبأية وسيلة؟
رسالة نبيلة هي كلمته: «لا نريد أن تتراجع إرادتنا عن إصلاح العالم وإصلاح أنفسنا، فواجب الفنانين في أحلك الظروف أن يرفضوا الاستسلام للظلم، وأن يتمسكوا بجعل حرية الإنسان وكرامته في مركز العالم، وأن يسهموا في تأهيل بني البشر لرفض التمييز والعنصرية والحروب، ويعملوا على توحيد المجتمع الإنساني، بالدفاع عن الحقيقة والعدالة وحق الشعوب في الوجود».
منظومة فنية مسرحية وطنية وقومية وإنسانية جمعها في كلمته في يوم المسرح العربي، الذي يوحدنا هنا ثقافيا وإنسانيا. ولعلنا هنا نكرر الشكر دوما لراعي مسيرة الهيئة العربية للمسرح الشيخ سلطان بن محمد القاسمي حاكم إمارة الشارقة وعضو المجلس الأعلى لاتحاد الإمارات العربية المتحدة، وهو المحب للمسرح والعروبة والإنسانية.
0 تعليق