هذا الأمر بدى جليا، عندما تراجعت فرنسا عما أعلنه رئيس وزرائها ميشيل بارنييه، أن باريس ستطبق القانون الدولي بشأن تنفيذ مذكرة اعتقال لكل من رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو ووزير الدفاع يوآف غالانت، التي أصدرتها المحكمة الجنائية الدولية قبل نحو أسبوعين على خلفية ارتكاب جرائم إبادة جماعية في غزة، حيث إنه بعد أسبوع من إصدار المذكرة وساعات فقط من وقف إطلاق النار، ظهر تصريح مناقض من الخارجية الفرنسية، يفيد بأن نتنياهو يمكنه الاستفادة من الحصانة بموجب القانون الدولي.
هنا تستمر سلسلة المواقف السياسية المتأرجحة بين فرنسا وإسرائيل، والتي بدأت شرارتها منذ سبتمبر الماضي، عندما دعا الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون إلى وقف تزويد إسرائيل بالسلاح، على اعتبار أنه الوسيلة الوحيدة لوقف الحرب، ما دفع إسرائيل إلى وصف نهج السياسة الفرنسية تجاهها بالعدائية، لتأتي بعدها عدة تداعيات جعلت الحكومة الفرنسية تمنع شركات دفاعية إسرائيلية من المشاركة مرتين في معرضين دفاعيين.
تبع ذلك إجراء استفزازي من تل أبيب في بداية نوفمبر الماضي باعتقال موظفين من القنصلية الفرنسية في موقع مقدس ومملوك لفرنسا في القدس، وهو ما أثار غضب باريس وجعلها تستدعي سفير إسرائيل، وبعد ذلك بأيام ألغى وزير المالية الإسرائيلي بتسلئيل سموتريتش زيارته إلى باريس، فيما استمر التصعيد بين البلدين حتى وصل الأمر إلى رفض حكومة نتنياهو مشاركة فرنسا في اللجنة الدولية التي تشرف على وقف إطلاق النار في لبنان، لتبدأ بعد ذلك مرحلة المقايضة في المواقف السياسية، التي شهدت تنازل فرنسا عن موقفها تجاه القانون الدولي.
وهنا يبرز سؤال لماذا هذه التحولات السريعة في المواقف السياسية بين البلدين؟ ولماذا تراجعت فرنسا عن التزامها بالتعاون مع القانون الدولي، وتهدئة خطابها الانتقادي تجاه تل أبيب؟ وفي المقابل لماذا لا تأبه إسرائيل لفرنسا ولا تريدها عضوا فاعلا في حل الحروب القائمة في غزة ولبنان؟
للإجابة عن ذلك، هناك جوانب معقدة في السياسة الفرنسية تجاه إسرائيل، فهي تحاول الموازنة بين علاقاتها الدولية ومبادئها، إذ إنها تواجه تحديا بين احترام القرارات الدولية وبين خدمة مصالحها السياسية والاقتصادية، لكن يتضح أن سياسة فرنسا تغلب مصالحها أكثر من أي شيء آخر، ويبرر ذلك عدة أسباب.
فهي ترغب - أي فرنسا - في الحفاظ على دورها في المنطقة، خاصة في لبنان، نظرا للعلاقة الطويلة والعميقة معها، فهي تنظر إلى لبنان كمدخل مهم في الشرق الأوسط، ما جعلها تصمم على لعب دور أكبر في وقف إطلاق النار، وقد يكون ذلك جزءا من استراتيجية أوسع لها لتعزيز نفوذها الدولي وتلميع صورتها على الساحة الدولية، خاصة مع الانتقادات الداخلية التي ما زالت تواجهها حكومة ماكرون، مثل نظام التقاعد، وارتفاع تكلفة المعيشة، والسياسات الضريبية، محاولة بذلك تشتيت الانتباه عن التحديات الداخلية، وهذا النهج ليس جديدا في السياسة بشكل عام، حيث يستخدم القادة أحيانا النجاحات الخارجية لتعزيز شعبيتهم المحلية.
كما أن تعيين حكومة جديدة مؤخرا بقيادة ميشيل بارنييه يمكن أن يكون محاولة لإعادة بناء الثقة مع الجمهور وإظهار تغيير في النهج للتعامل مع التحديات المحلية، فبارنييه لديه خبرة واسعة في السياسة الأوروبية والدولية، وهو ما بدى واضحا فيما نتج من مواقف سياسية في هذا الصدد، بما يعزز من نفوذها وتأثيرها في قضايا الشرق الأوسط، وتعظيم دورها على الساحة الدولية وإظهار التزامها بالعمل الدبلوماسي لحل النزاعات.
خلاصة القول، تسعى فرنسا من خلال تحركاتها في الشرق الأوسط إلى لعب دور الوسيط في المنطقة، واتباع نهج متوازن يمكنها من الحفاظ على خطوط التواصل مع جميع الأطراف، لكنها تصطدم في كل محاولة من محاولاتها بتعنت إسرائيلي لا يريد لباريس أن تلعب هذا الدور، بل أنها لم تلتزم حتى بوقف إطلاق النار، فغاراتها مستمرة على الجنوب اللبناني، وكأن وقف إطلاق النار مجرد حبر على ورق.
وعلى الرغم من أن إسرائيل تنظر إلى علاقاتها مع فرنسا من منظور استراتيجي، باعتبارها دولة مهمة، لكن صانعي القرار في تل أبيب يضعون أولوياتهم بناء على من يقدم لها دعما أكبر، مثل الولايات المتحدة، في ظل محدودية الدعم الفرنسي وقلة صادرتها من الأسلحة إلى إسرائيل، وكثرة انتقاداتها للسياسات الوحشية في غزة ولبنان.
0 تعليق