الخرمية.. من «الإباحية» إلى «التأول»

الدستور 0 تعليق ارسل طباعة تبليغ حذف

يشير كل من «ابن كثير» فى «البداية والنهاية» و«ابن الأثير» فى «الكامل فى التاريخ» إلى أن الظهور الأول لدين «الخرمية» كان سنة ١١٨ هجرية، أوائل الدعوة لنقل الخلافة إلى بنى العباس، أيام المناداة باسم «محمد بن على»، حفيد عبدالله بن عباس بن عبدالمطلب، وقد كان من أشهر دعاته حينذاك «عمار بن يزيد»، الذى تم تعيينه واليًا على خراسان، والتف من حوله شيعة بن العباس، فنزل «مرو» وغيّر اسمه وتسمى بـ«خداش»، ودعا إلى محمد بن على، فسارع إليه الناس وأطاعوه. يقول «ابن الأثير» إن «خداش» انقلب بعد ذلك على بنى العباس، وبدأ يكذب عليهم، وأظهر دين الخرمية ودعا إليه، ويضيف «ابن كثير» أن محمد بن على لما علم بذلك غضب على أشياعه وأتباعه وطلب منهم الانفضاض من حول «خداش».

فى سياق الحديث عن شخصية «خداش» ظهر لأول مرة الكلام عن «دين الخرمية»، الذى اتهمه المؤرخون بأنه كان يدعو إليه، وهو كلام بعيد عن الأحاديث التقليدية عن «خرمية بابك» الذى كان يدعو إلى الإباحية ويؤمن بتناسخ الأرواح. وقد ظهر الكلام عند «ابن الأثير» فى كتاب «الكامل فى التاريخ»، وقال فيه: «أظهر خداش دين الخرمية ودعا إليه ورخص لبعضهم- أى أتباعه- فى نساء بعض، وقال لهم: إنه لا صوم ولا صلاة ولا حج، وإن تأويل الصوم أن يصام عن ذكر الإمام فلا يباح باسمه، والصلاة الدعاء له، والحج القصد إليه، وكان يتأول من القرآن قوله تعالى: «ليس على الذين آمنوا وعملوا الصالحات جناح فيما طعموا إذا ما اتقوا وآمنوا وعملوا الصالحات».

حديث «خداش» عن «الإمام» يمنحك مؤشرًا مبدئيًا عن تشيعه لأهل بيت النبى، وربطه بين العبادات والإمام يؤكد لك هذا الاستخلاص، فالصوم يعنى الامتناع عن ذكر اسمه، والصلاة دعاء له، والحج يعنى التوجه إليه، وواضح أن عمار بن يزيد كان يدعو للفرع العباسى وأحقيته بالخلافة مثل كثير من الدعاة الذين انتشروا فى خراسان، والدليل على ذلك تعيينه واليًا عليها والتفاف أنصار هدم الخلافة الأموية والدعوة لخلافة أهل البيت حوله، ولا يوجد ما يدلل فى كتب التاريخ على انقلابه عليهم واتجاهه إلى الدعوة للفرع المنافس، وهو الفرع العلوى، لكن يبقى أن الانقلاب الذى حدث له، وجعل محمد بن على يحرض ضده، ويتهمه بالزندقة واتباع «دين الخرمية»، ليس له ما يبرره إلا الانقلاب السياسى، وليس الانقلاب الدينى، كما يذهب المؤرخون، وأن الهجوم عليه يقع فى سياق الاجتهاد فى الاغتيال المعنوى لمنافس سياسى، بالتذرع بمخالفات دينية مريعة من وجهة نظر الثقافة السائدة. وكان المدخل الأخطر فى هدم صورته أمام أتباعه هو اتهامه بالإباحية، فهو يرخص لأتباعه فى نساء بعضهم البعض، ليس ذلك وفقط، بل يرفع العبادات عنه وعن أصحابه، فلا صيام ولا صلاة ولا حج، ويأخذ فقط بالمعانى اللغوية للعبادات وليس بمعانيها الاصطلاحية.

يذكر «ابن الأثير» أيضًا أن «خداش» كان يتأول من القرآن قوله تعالى: «ليس على الذين آمنوا وعملوا الصالحات جناح فيما طعموا إذا ما اتقوا وآمنوا وعملوا الصالحات». ولو أنك تأملت الشرح الذى قدمه المفسرون لهذه الآية فسوف تجدهم يتفقون على أنها نزلت للإجابة عن سؤال بعض الصحابة- بعد تحريم شرب الخمر وأكل الميسر- عن موقف إخوانهم الذين شاركوهم ذلك وماتوا قبل نزول الأمر بتحريمهما؟ وموقفهم هم ذاتهم فيما يتعلق بما سبق وشربوه من خمر وما أكلوه من ميسر؟ وقد أوحى الله إلى نبيه بهذه الآية ليطمئن المؤمنين إلى عدم وجود مشكلة فيما سبق وطعموه. 

يبدو هذا التفسير للآية غريبًا بعض الشىء، فالصحابة كانوا يعلمون أن الإسلام يجُبُّ ما قبله، وأنه لا جناح على المؤمن فى إتيان شىء فى الماضى حرمه الله فى الحاضر، وقد عاشوا جميعًا ردحًا طويلًا من عمرهم فى زمن الجاهلية يسلكون مثلما يسلك أهلها، وحين آمنوا تفهموا أنهم يبدأون صفحة جديدة، وأن الإيمان محا تاريخهم السابق، وبالتالى فسؤالهم غير منطقى. هناك أيضًا مسألة أخرى غريبة تتعلق بكلمة «طعموا»، فالآية تتحدث عن طعام وليس عن شراب «الخمر»، نعم تحدث المفسرون أن كلمة «طعموا» تعنى- مجازًا- الأكل والشرب، وقد تأولوا أيضًا وقالوا إن المقصود بما طعموا: ما شربوه من خمر وما أكلوه من الميسر. وهذا الكلام يبدو غير مقنع بعض الشىء.

والسؤال: ماذا قصد المؤرخون بأن «خداش» كان يتأول هذه الآية الكريمة؟ الإجابة تجدها فى تفسير القرطبى الذى أشار فى شرح هذه الآية إلى أن من الممكن تأويلها على أكثر من وجه، أهمها ما اتفق عليه غيره من المفسرين مما شرحته لك فيما سبق، لكنه أشار إلى وجه آخر حاول بعض الصحابة أن يبرروا به شرب الخمر استنادًا إلى هذه الآية، مثل الصحابى قدامة بن مظعون الجمحى، الذى شرب الخمر فى عصر عمر بن الخطاب، وعندما أراد عمر جلده، قال له: ما كان لك أن تجلدنى يا عمر، قال: ولمَ يا قدامة؟ قال: لأن الله سبحانه وتعالى يقول: «ليس على الذين آمنوا وعملوا الصالحات جناح فيما طعموا»... إلى آخر الآية، فرد عليه عمر: أخطأت التأويل يا قدامة، إذا اتقيت الله اجتنبت ما حرم الله.

الواضح أن «خداش الخرمى» كان يتأول الآية الكريمة على هذا النحو، فيبيح لنفسه شرب الخمر أو الإفطار فى رمضان، وقياسًا على ذلك يؤول مفهوم الصلاة ويحصرها فى الدعاء، والحج ويحصره فى القصد، أو الاتجاه بالقلب إلى الإمام وغير ذلك، انطلاقًا من أن العبادات هدفها تحقيق التقوى، فإن كان المؤمن متقيًا بالأصل فلا جناح عليه إذا شرب الخمر أو أفطر فى رمضان أو غير ذلك. وقد هدم عمر بن الخطاب الفكرة بعبقرية حين رد على «قدامة» قائلًا: إذا اتقيت الله اجتنبت ما حرم الله.

فى كل الأحوال لا يدلل الطرح الذى قدمه «خداش الخرمى» على دين اسمه الخرمية، بل يعبر عن مجرد اجتهاد فى التأويل، من الواضح أنه أخطأ فيه.

إخترنا لك

أخبار ذات صلة

0 تعليق