لا تزال الذاكرة تسجل حضورا استثنائيا على مشهد الحياة اليومية التي نعيشها، فنحن بدون الذاكرة لا نساوي شيئا، حيث نكون عاجزين عن فعل أشياء كثيرة، فبمجرد فقدان شيئ مما خزناه فـي ذاكرتنا، ترى رؤوسنا تدور حول نفسها، ونكاد نسقط مغشيا علينا من هول الموقف الذي نكون فـيه، ذلك أن احتجاب شيء مما تختزنه الذاكرة، معناه انقطاع عن تراكم معرفـي تم رصده طوال سنوات العمر التي قطعناها، وكأننا نبدأ من جديد «صفحة بيضاء» ولأن الذاكرة بهذه الأهمية، فإنها، فـي المقابل تحظى بالاهتمام الكبير من قبل الإنسان ذاته، وبالتالي فعندما يوسم الواحد منا فـي ذاكرة، يكاد يشن هجوما مباغتا على من تجرأ عليه، فذاكرته هي كل ما يملك، فمن فقد ذاكرته، فقدْ فقدَ حياته، ولذا فعندما تتراجع الذاكرة عن دورها المحوري الذي يعايشه الإنسان منذ بداية الوعي الأول، يجد هذا الإنسان أنه فـي محنة عظيمة، كيف له أن يتجاوزها، وهو فـي أوج حاجته الماسة إليها، حيث تبدأ حسابات المكسب والخسارة من جديد.
هناك أفراد يوصفون بأنهم من ذوي الذاكرة الصخرية، أي أنهم يستحضرون التفاصيل الصغيرة للأحداث، ولو مر على هذه الأحداث الأعوام الكثيرة، ومنهم من يتذكر الحدث، بتاريخ اليوم، والعام، وأحيانا الفترة الزمنية (صباحا/ مساء) ومن فرط هذا الاستحضار لقوة الذاكرة، تراهم يتباهون بذلك، وهذا حقهم، فليس كل إنسان تكون عنده هذه القوة، أو الملكة، وهي بلا شك نعمة من الله على هذا العبد الذي يحتضن بين جنباته ذاكرة صلدة بقوة الصخر، ومع ذلك فهذا الأمر لا يعفـيهم من الوقوع فـي مكر الذاكرة، فـي بعض الأحيان، فللذاكرة امتحان لا يمكن أن يسلم منه أحد، ولعل فـي هذا الامتحان شيء من بناء الذاكرة، تحت مفهوم عمليات البناء والهدم، وهو أمر ضروري، فـي سياق تجدد الأحداث والمواقف والقناعات، فالإنسان لن يكون مقطوعا من شجرة، فهو ملتحم بما حوله، ومع من حوله، ولذلك فتجدد المعلومات من شأنه أن يزاحم المعلومات القديمة، أو يلغيها مطلقا، حيث يستبدلها بما هو أحدث.
ما الذي يشغل الذاكرة؟ عندما يطرح سؤال كهذا، فإن الفكرة تذهب إلى أن الذاكرة تستشرف أفقا قادما، ولكنه غير مرئي، ولكن الحقيقة أن الذاكرة تسترجع شيئا من الصور المخزنة فـيها، وتعيد أنتاجها من جديد، وإعادة الإنتاج هذه ليست بالضرورة واقعية، أو قد تحقق نتائج مقدرة، ومن هنا تجعلنا الذاكرة أمام تحد صعب، أو اتخاذ قرار أصعب، فالذاكرة لا تخرج عن كونها ذاكرة، كما هو الحال، ذاكرة الجهاز الآلي بمختلف أنواعه، عندما نستجلب صورة، أو معلومة قد خزّناها منذ فترة زمنية ما، ونرسلها للآخر، أو نستخدمها لغرض ما نود إنشاءه، حيث يبقى هذا المستجلب جزءا من الكل، ليس أكثر، بمعنى أن أهميته تبقى فـي المساحة التي يشغلها من ذلك الجزء، وكما جاء أعلاه حيث تتم عمليات الهدم والبناء.
لعل أشد المواقف إحراجا لأحدنا عندما يواجه شخصا ما، ولا يتذكر اسمه، مع أن هذا الشخص قد جمعتنا به فترة زمنية من التعامل (دراسة/ عمل/مناسبة) والأخذ والرد، ولعل العتب فـي ذلك - كما نردد دائما - على الزمن الذي يغيب الكثير من الملامح، والصور المخزنة عن ذات (الشخص/ الأشخاص) وفـي هذه المواقف يظهر أكثر أصحاب الذاكرة الصخرية، ويتفوقون على من دونهم من ذوي الذاكرات المرتبكة، وإن كان ليس فـي ذلك من مظنة أو عيب، فالإنسان يبقى رهين صحة ذاكرته من التشويش.
0 تعليق