‏الاستعمار الاستيطاني في فلسطين إلى نهاية

الغد 0 تعليق ارسل طباعة تبليغ حذف

‏ريتشارد دي وولف*‏ - (كاونتربنش) 31/1/2025


كانت ولادتي من نتاج الكارثة الفاشية للرأسمالية الأوروبية من عشرينيات إلى أربعينيات القرن العشرين. كما أنتجت تلك الكارثة أيضًا تجربة إسرائيل في الاستعمار الاستيطاني في فلسطين. ويشير هذا المقال إلى هاتين الحادثتين لتحليل الكارثة الفلسطينية الإسرائيلية الحالية.‏اضافة اعلان
‏تبدأ أسبابي أو مؤهلاتي لكتابة مثل هذا المقال بحقيقة أن جدتي وجدي قُتلا في معسكر اعتقال ماوتهاوزن النازي. وقُتلت عمتي، شقيقة والدي، في أوشفيتز. وأمضت والدتي وشقيقتها سنوات في معسكرات اعتقال مختلفة. وبسبب هذه الأحداث، فرّ والداي من أوروبا وأسسا عائلة في الولايات المتحدة. ومثل بعض أحفاد الضحايا الآخرين الذين شهدوا مثل هذه الفظائع، حاولت فهم الكيفية التي جعلتهم ضحايا والآثار المعقدة التي أحدثها ذلك على حياتي بشكل مباشر وغير مباشر.‏
يختلف الأحفاد في ردات فعلهم على ما حدث. البعض يتجهون إلى دواخلهم بحثًا عن الأمان من خلال فك ارتباط عن العالم وتاريخه والتركيز على البقاء. وثمة البعض الذين يحاولون العثور على السلوى في الاعتقاد بأن جزءًا من العالم- أو كله- قد تجاوز الظروف التي أنتجت وضع الضحية الذي خلقته لهم حقبة الفاشية. ويعاني البعض من خلائط طويلة الأمد من العجز والغضب والخوف من حدوث ما حدث مرة أخرى. ومن بين هؤلاء، ثمة أولئك الذين يحاربون الفاشية أينما رأوا أنها تعود إلى الظهور، وكذلك أولئك الذين يديمون المزيد من دورات الاضطهاد وجعل الآخرين ضحايا. وما يزال آخرون يحاولون التوصل إلى الفهم من خلال كتابة المقالات والكتب.‏
‏حاولت إسرائيل إدارة استعمار استيطاني على غرار الاستعمارات الاستيطانية الأوروبية السابقة التي تأسست في جميع أنحاء العالم. وقد ارتبط ذلك الجهد بي شخصيًا بطريقة غير مباشرة بشكل لافت. من دون فهم السبب، اخترتُ المشاركة في برنامج للطلاب الجامعيين في جامعتي هارفارد ورادكليف، أخذ 20 منا إلى شرق إفريقيا في أوائل الستينيات كمتطوعين لصيف تدريسي. وهناك، بدأت أتعلم ما يعنيه الاستعمار الاستيطاني. ونمَت الدراسات الإضافية التي أجريتها لتدخل في أطروحتي للدكتوراه لاحقًا في جامعة ييل، المستندة إلى البحث في سجلات المكتب الاستعماري في لندن والمتحف البريطاني. وحاول كتابي الناتج، "‏‏اقتصاديات الاستعمار: بريطانيا وكينيا، 1870-1930"،‏‏ The Economics of Colonialism: Britain and Kenya, 1870–1930 (نيو هافن، مطبعة جامعة ييل، 1974) تحليل الاقتصاد الاستعماري الاستيطاني في كينيا.‏
‏هناك، قامت بريطانيا بطرد السكان الأصليين ومنحت المرتفعات الخصبة في البلاد لبضعة آلاف من المهاجرين البيض. وبالإضافة إلى الأراضي وحماية الشرطة، زودت بريطانيا مهاجريها ببذور نبتة البن، والنقل، وسوق لتشغيل اقتصاد صادرات البن المزروع في كينيا. ووجد ملايين السود الكينيين الذين تم نقلهم قسرًا إلى محميات ضيقة أن هذه الأماكن غير مناسبة للحفاظ على استمرارية حياتهم. وهكذا تطلب منهم الحفاظ على بقائهم أداء أعمال منخفضة الأجور في مزارع البن التي أصبح يملكها المستوطنون البيض. وساعدت الضرائب المفروضة على تلك الأجور المنخفضة أصلًا في تمويل الحكومة الاستعمارية البريطانية التي فرضت نظاما استعماريًا استيطانيًا استغلاليًا ووحشيًا بلا رحمة. وكان هذا الفصل الاقتصادي والعرقي في كينيا يوازي الفصل العنصري المعروف أكثر في جنوب إفريقيا.‏
‏عادة ما تُنتج مثل هذه الأنظمة الاقتصادية مقاومة مستمرة تتراوح من الأعمال الفردية والجماعية الصغيرة اليائسة، إلى الحركات الجماهيرية، إلى الثورات المنظمة. وقد حدثت أعمال المقاومة هذه في كينيا وجنوب إفريقيا وأماكن أخرى أيضًا، وقمعتها بريطانيا بشكل روتيني. في كينيا تجمع المنظِّمون في نهاية المطاف حول جومو كينياتا (1) وحشدوا للثورة ما سمي بـ"جيش الأرض والحرية الكيني". وأصبحت معركة الثوار الكينيين تلك معروفة على نطاق واسع باسم "انتفاضة ماو ماو" (2) في الخمسينيات ضد الحكومة البريطانية. وشمل القتلى في تلك الانتفاضة 63 ضابطًا عسكريًا بريطانيًا، و33 مستوطنًا، وأكثر من 1.800 شرطي محلي وجندي مساعد، وأكثر من 11.000 ثائر كيني. وقمع البريطانيون التمرد وسجنوا كينياتا وأعلنوا النصر بصوت عال.‏
مع ذلك، دق انتصار بريطانيا ناقوس الموت لمستعمرتها في كينيا. أظهرت انتفاضة "ماو ماو" للبريطانيين المستويات المتزايدة من المقاومة والتمرد التي سيواجهونها إلى أجل غير مسمى من مواطني المستعمرات الاستيطانية التي أنشأوها. ورأى السياسيون البريطانيون في هذه المقاومات تكاليف متنامية مثل الفطر ولا يمكن تحملها بسبب تمرد المستعمرات. ومنذ نهاية الحرب العالمية الثانية، كانت الاستعمارات الأوروبية تتلاشى في كل مكان تقريبًا. ولم يستطع القادة البريطانيون الهروب من ضرورة استيعاب الواقع التاريخي والتكيف معه. وبعد فترة وجيزة من انتفاضة "ماو ماو"، اعترفت بريطانيا بالاستقلال الوطني لكينيا، وأطلقت سراح كينياتا وقبلته كزعيم جديد لكينيا. وكان الاستقلال نهاية الاستعمار الاستيطاني في كينيا.‏
‏أثر درس الاستعمار الاستيطاني الذي قدمته كينيا بعمق على القادة البريطانيين، لكنه درسٌ رفض القادة الإسرائيليون تعلمه، كما تبين. بالنظر إلى التاريخ الخاص للصهيونية واليهود الأوروبيين، كان معظم القادة الإسرائيليين مصممين على فرض الاستعمار الاستيطاني على الشعب الفلسطيني وإدامته بالقوة.‏
منذ البداية، أثار "إعلان الاستقلال" الذي أصدره القادة الإسرائيليون في أيار (مايو) 1948 مقاومة فلسطينية وعربية فورية ما تزال مستمرة حتى هذه اللحظة. وتخللت الحركات الجماهيرية والتمردات الواسعة تلك المقاومة، وتمتعت بدعم خارجي متزايد (من مصادر عربية وإسلامية وغيرها). وترك زوال الاستعمار الاستيطاني الأوروبي السابق إرثا من الصعوبات الهائلة أمام الجهود الإسرائيلية لتأسيس استعمار آخر والحفاظ عليه.‏
‏كان أحد الجوانب الحاسمة في استجابتهم لتلك الصعوبات هو تشكيل تحالف مع قوة عالمية يمكن أن تساعد في الدفاع عن استعمارهم الاستيطاني. وأدى التحالف الوثيق الناتج مع الولايات المتحدة إلى وضع إسرائيل كعميل لها في الخطوط الأمامية في الشرق الأوسط، بحيث تكون الامتداد العسكري المهيمن للولايات المتحدة إلى حيث توجد موارد الطاقة العالمية الرئيسة. وأدى التحالف مع الولايات المتحدة إلى تقويض المكونات الاشتراكية والجماعية والكيبوتسية المبكرة في إسرائيل. ودفع معظم القادة الصهاينة عن طيب خاطر ثمن هذا التحالف. وثمة ثمن آخر كان اعتماد إسرائيل العسكري والاقتصادي والسياسي المطلق على الولايات المتحدة. وأخيرًا، أقام القادة الإسرائيليون روابط ثقافية وعائلية قوية مع المجتمعات الشريكة المؤثرة ماليًا وسياسيًا داخل الولايات المتحدة وأوروبا. وبهذه الطرق، كان القادة الإسرائيليون يأملون في أن يستمر الاستعمار الاستيطاني وينمو على الرغم من العديد من الأمثلة في التاريخ التي أثبتت خلاف ذلك.‏
لبعض العقود، بدا للكثيرين داخل إسرائيل وخارجها أن إستراتيجية قادتها وعلاقاتهم قد تؤمن ديمومة استعمارها الاستيطاني. ولكن بعد ذلك بدأ ما حدث في كينيا يتكرر في إسرائيل (كلّ في ظروف مختلفة). قاوم الفلسطينيون، وجاءت الحركات الجماهيرية على الأعقاب، وأخيرًا نشأت انتفاضات قوية ومنظمة. وأثبتت الانتصارات الإسرائيلية بدورها على كل من هذه الانتفاضات أنها مجرد مقدمات لأشكال لاحقة أعلى من المعارضة التي تتمتع بدعم عالمي متزايد باطراد. كانت الانتصارات الإسرائيلية تشبه تلك التي حققها نظراؤهم البريطانيون في كينيا.‏
‏من الواضح الآن أيضًا في إسرائيل وفلسطين أن احتمال نشوب حرب لا نهاية لها في المستقبل سيكلف على الأرجح المزيد من الأرواح والإصابات والأضرار الجسدية والنفسية، والخسائر الاقتصادية والسياسية. ويخرج الضحايا الذين نجوا من العنف الإسرائيلي الشديد في غزة فعليًا أكثر تحفيزًا، وأفضل تدريبًا، وبأسلحة أكثر فعالية لخوض معركتهم. وبالمثل، سوف يشمل أبناء هؤلاء الضحايا العديد من المصممين على إنهاء الاستعمار الاستيطاني الإسرائيلي.‏
يقف التاريخ- والآن الوقت نفسه- إلى جانب الفلسطينيين. وقد اضطر، حتى مؤيد مخلص لإسرائيل، مثل وزير الخارجية الأميركي السابق، أنتوني بلينكن، إلى الاعتراف بحقيقة صارخة (على الرغم من أنه لم يعترف بمعناها التاريخي ولا تداعياتها السياسية). ‏‏قال‏‏: "في الواقع، نقدر أن حماس جندت من المقاتلين الجدد عددًا قريبًا من الذين فقدتهم. وهذه وصفة لتمرد دائم وحرب دائمة".‏
‏أُجبرت إمبراطورية بريطانيا المحتضرة على القبول باستقلال كينيا في العام 1963 وبنهاية استعمارها الاستيطاني. ويفرض التدهور الحالي للإمبراطورية الأميركية شيئًا مشابهًا في إسرائيل. بعد الحرب الأخيرة -والأكثر سوءًا- في غزة، يقترب حليف إسرائيل المهم من النتيجة نفسها التي توصلت إليها بريطانيا في كينيا بعد انتفاضة "ماو ماو".‏
‏بالنسبة لأعداد متزايدة من قادة الولايات المتحدة، أصبحت مخاطر وتكاليف تحالفها مع إسرائيل ترتفع بشكل أسرع من الفوائد. ووصل كثيرون، بمن فيهم مواطنو الولايات المتحدة، إلى قناعة بأن تزويد إسرائيل بالأموال والأسلحة يجعل الولايات المتحدة "‏‏متواطئة في الإبادة الجماعية‏‏"، وبالتالي معزولة عالميًا. وتبع ذلك وقف إطلاق النار الذي فرضه دونالد ترامب على إسرائيل. وسيكون ما إذا كان هذا الاتفاق سينجح وكيف تقاوم إسرائيل الانتقادات المستمرة وتتهرب منها، أقل أهمية بكثير من المسار الأساسي الذي تسير فيه الأمور الآن. ويشير التاريخ إلى أن بنيامين نتنياهو أو خلفاءه سينفصلون في نهاية المطاف عن الولايات المتحدة. وسوف يسرّع تحالفهم المفقود من نهاية الاستعمار الاستيطاني الإسرائيلي.‏
*ريتشارد وولف Richard D. Wolff: عالم اقتصاد ماركسي أميركي، معروف بانتقاداته الحادة للرأسمالية ودعواته إلى الديمقراطية في أماكن العمل. وهو أستاذ فخري في جامعة ماساتشوستس - أمهيرست، وأحد أبرز المفكرين اليساريين في الاقتصاد المعاصر. يركز في عمله على الاقتصاد الماركسي وانتقاد النيوليبرالية. وهو مؤسس منظمة "الديمقراطية قيد العمل". من كتبه "الرأسمالية تصطدم بالمأزق" Capitalism Hits the Fan؛ و"أزمة الرأسمالية تتعمق" Capitalism’s Crisis Deepens. يعتبر أحد أبرز الأصوات الاقتصادية البديلة في الولايات المتحدة، حيث يقدم حلولًا اقتصادية خارج الإطار الرأسمالي التقليدي.
*نشر هذا المقال تحت عنوان: Settler Colonialism: “It Ends with Us” in Palestine and Israel

هوامش المترجم:
(1)    جومو كينياتا Jomo Kenyatta: أول رئيس لكينيا بعد استقلالها عن بريطانيا، حيث حكم من العام 1964 إلى العام 1978. يُعتبر "أبو الأمة الكينية" بسبب دوره البارز في حركة الاستقلال الكينية وإنهاء الاستعمار البريطاني. انضم إلى حركة "ماو ماو" التي قاومت الحكم البريطاني، وسُجن من العام 1952 إلى 1959 بتهمة التحريض ضد الاستعمار. أصبح أول رئيس وزراء لكينيا في العام 1963 ثم أول رئيس لها في العام 1964 بعد الاستقلال. ركّز على الوحدة الوطنية والتنمية الاقتصادية لكنه اتُهم بمحاباة قبيلته (كيكويو). توفي في العام 1978.

(2) ثورة ماو ماو Mau Mau Uprising: حركة مقاومة مسلحة ضد الاستعمار البريطاني عملت في كينيا (1952-1960)، قادها مقاتلون من قبيلة الكيكويو بشكل رئيسي. هدفت الحركة إلى إنهاء الحكم البريطاني واستعادة الأراضي المسلوبة من الكينيين الأصليين. بدأت كحركة سرية، وشملت طقوس ولاء سرية للمقاتلين. واجهتها بريطانيا بحملة قمع عنيفة تضمنت اعتقالات جماعية، ومعسكرات اعتقال، وإعدامات. وأدى القمع إلى مقتل عشرات الآلاف من الكينيين. ورغم هزيمة المتمردين عسكريًا، ساهم التمرد في تسريع استقلال كينيا، الذي تحقق العام 1963. وتعتبر هذه الثورة رمزًا للكفاح ضد الاستعمار في إفريقيا.

إخترنا لك

أخبار ذات صلة

0 تعليق