غربة عمر

الوطن البحرينية 0 تعليق ارسل طباعة تبليغ حذف

حين يهاجم الزهايمر الذاكرة، لا يسرق فقط الأسماء والتواريخ، بل يسلب صاحبه إحساسه بالزمن، فيجده متأرجحاً بين الماضي والحاضر دون إدراك واضح للفارق بينهما. إنها ليست مجرد نسيان عابر، بل غربة حقيقية يعيشها المصاب، حيث يصبح الأمس أكثر وضوحاً من اليوم، والأشخاص الأقرب إليه أشباحاً من ماضٍ لم يعد قادراً على ربطه بالحاضر.

تخيل أن تستيقظ صباحاً ولا تتذكر وجه أقرب الناس إليك، أو أن تجد نفسك في مكان مألوف لكنه يبدو غريباً، وكأنك زائر في حياتك الخاصة. هذه الغربة لا يشعر بها المصاب وحده، بل تمتد إلى أفراد أسرته، الذين يجدون أنفسهم أمام شخص يتغير تدريجياً، فتبهت ملامحه العاطفية، وتصبح ذكرياته المشتركة معهم مجرد سراب.

يحاول الأهل والأصدقاء سد الفجوة الزمنية، يعيدون سرد القصص، يعرضون الصور، يتحدثون بحذر، لكن الحقيقة المؤلمة أن المصاب قد يكون حاضراً جسدياً، لكنه غائب بروحه ووعيه. في لحظات نادرة، يعود للحاضر، يبتسم عند سماع اسم مألوف، أو يتذكر لحظة قديمة، لكن سرعان ما يعود إلى شروده، وكأنه يتنقل بين العصور دون تحكم.

“غربة عمر” ليست فقط في ذهن المصاب، بل تمتد إلى من حوله، حيث يعيشون ألم فقدان شخص لا يزال بينهم. ومع ذلك، يظل الحب هو الرابط الأخير، فحتى إن ضاعت الذكريات، يبقى الشعور بالأمان والحنان قادرًا على لمس الروح، ولو للحظات عابرة.

لكن وسط هذه الغربة، يبقى للأهل والأحبّة دور جوهري في تخفيف وطأة الضياع. فالصبر، والتواصل الحسي، ونبرة الصوت الدافئة، قد تكون جسوراً تعيد للمصاب شعوراً بالألفة ولو للحظات. لمسة يد مألوفة، أو نغمة أغنية قديمة، أو حتى رائحة عطر اعتاد عليها في شبابه، قد تعيد إليه وميضاً من وعيه، فيشعر للحظة بأنه ليس وحيداً في هذا التيه.

ورغم قسوة المرض، يظل الحبّ لغةً لا تحتاج إلى ذاكرة. فحتى إن عجز المصاب عن التعرف على أقرب الناس إليه، يظل بإمكانه الإحساس بالطمأنينة معهم. ربما لا يتذكر الأسماء، لكنه يشعر بالودّ، وربما لا يدرك الزمان، لكنه يستشعر الحنان. وفي النهاية، تبقى المشاعر الصادقة أقوى من النسيان، حتى وإن غاب العقل، يظل القلب يتذكر.

إخترنا لك

أخبار ذات صلة

0 تعليق