الإمام محمد بن سعود وضع أسس الحكم وأرسى دعائم الأمن والاستقرار والازدهار
توشك أن تمضي ثلاثة قرون بالتمام والكمال على تأسيس الدولة السعودية، حيث قام الإمام محمد بن سعود بتأسيس الدولة السعودية الأولى في الدرعية في 22 فبراير 1727م، ووضع أسس الحكم الرشيد وأرسى دعائم الأمن والاستقرار والازدهار؛ لينهي قروناً من الفوضى والتنازع وعدم الاستقرار، وينشئ أول دولة مركزية في شبه الجزيرة العربية.
يأتي الاحتفال بيوم التأسيس، الذي بدأ بموجب أمر ملكي، اعتزازاً بالجذور الراسخة لهذه الدولة، وتأكيداً على ارتباط مواطنيها الوثيق بقادتها منذ عهد الإمام محمد بن سعود قبل ثلاثة قرون وحتى عهد خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبدالعزيز عقد الرؤية والتحول والازدهار، وما بذله قادة هذه الدولة في مراحلها الثلاث من جهود عظيمة وتضحيات جليلة لتصل السعودية إلى ما وصلت إليه الآن؛ من نموذج تحديث يُحتذى، ومنصة سلام لحل النزاعات، ونهضة اقتصادية تجذب إليها الرواد من العالم أجمع.
ذكرى يوم التأسيس فرصة مثالية لحكاية صفحات مضيئة من تاريخنا الوطني، تقول د. منى الغيث، أستاذة ورئيسة قسم التاريخ بجامعة الأميرة نورة، لـ"أخبار 24": "يجب علينا أن نتحدث عن هذا التاريخ الوطني ونفتح أبوابه الموصدة أمام الشباب؛ لأخذ العبر والدروس التاريخية ونحافظ على المكتسبات الوطنية التي تحققت على مدار ثلاثة قرون".
وفي هذه السطور نفتح صفحات السنوات الأولى من حكم الإمام محمد بن سعود للدولة السعودية، لنروي قصةً لم تأخذ حظها الكافي من الإضاءة والعناية، تلك الحقبة الزمنية التي شهدت وضع الأسس والثوابت لانطلاق الدولة الوليدة من جمع شتات أهالي المنطقة وبسط الأمن والاستقرار، وإطلاق العنان للنماء الاقتصادي والبناء الحضاري والثقافي.
الجزيرة العربية غارقة في الفوضى
كانت شبه الجزيرة العربية غارقة في الفوضى الاجتماعية والاضطرابات السياسية بسبب المنازعات بين أمراء وحكام القبائل وتنافسهم على الحكم. فكانت عبارة عن إمارات ودويلات مثل الرياض ومنفوحة واليمامة وغيرها، وكانت تفتقد إلى الوحدة السياسية.
الدرعية وآل سعود
تنسب أسرة آل سعود إلى مانع بن ربيعة المريدي، الذي قدم إلى الدرعية 850هـ (1446م)، مع أسرته إلى ابن عمه "ابن درع"، الذي منحه موضعين من "بليبد"، و"غصيبة" في وادي حنيفة.
استطاع مانع المريدي تحويلها إلى منطقة عامرة ونامية، وأطلق على هذه المنطقة الدرعية نسبةً إلى القبيلة وهي الدروع وذلك بحسب ما أكدته د. منى الغيث. وتوارث أبناء وأحفاد مانع المريدي حكم تلك المنطقة من بعده.
حكم الإمام محمد بن سعود
يقول د. محمد العوني أستاذ التاريخ الحديث بجامعة الإمام محمد بن سعود، لـ"أخبار 24"، عندما تولى محمد بن سعود حكم الدرعية عام (1139هـ - 1727م). كانت الدرعية تعيش حالة ليست جيدة من الناحية الاقتصادية والاجتماعية فاستطاع بسط الأمن والاستقرار على الرغم من الاضطرابات بالمناطق المحيطة.
ويضيف أن الإمام محمد بن سعود استفاد من نشأته بجوار والده سعود بن مقرن في صقل خبراته السياسية والإدارية، وكان يدرك أن الاستقرار السياسي هو الرافعة الأهم لازدهار الدرعية.
سياسات الإمام المؤسس
يرى د. العوني ود. الغيث أن الإمام محمد بن سعود انتهج سياسة بناء التحالفات مع القبائل لتأمين الطرق، وإقامة العلاقات الودية مع الإمارات المجاورة، وتجنب الصدام بالقوى الإقليمية الموالية للعثمانيين في الحجاز والأحساء، للحفاظ على الأمن والاستقرار في الدرعية وترسيخ الدولة الجديدة، حتى تمكن من إنشاء كيان قوي ودولة فتيّة في الدرعية.
التحالفات القبلية
كانت هناك بعض القبائل التي عمل الإمام محمد بن سعود على إقناعها بأهمية فكرة الوحدة، حتى تسانده في توحيد مناطق نجد.
تقول د. الغيث إن من أبرز هذه القبائل "عِنزة"، إحدى أقوى وأكبر القبائل التي دعمت الإمام المؤسس سياسياً وعسكرياً، وكذلك قبيلة سبيع، وقبيلة قحطان التي ساعدته في الكثير من الحروب حتى تمكن من بسط سيطرته على الكثير من مناطق نجد، وكذلك بعض قبائل بني خالد، التي دعم بعضها الإمام والبعض الآخر كان موالياً للعثمانيين، بالإضافة إلى قبائل مطير، وعتيبة التي نشرت الأمن والاستقرار في المنطقة، وقبيلة الظفير التي ساعدته في توحيد أغلب مناطق نجد.
كما عمل الإمام المؤسس على توثيق الأواصر والوشائج الاجتماعية مع القبائل؛ لتمتين الأسس الاجتماعية للدولة السعودية. وفي هذا السياق يشير د. العوني إلى أن محمد بن سعود زوّج ابنه وولي عهده عبدالعزيز من ابنة "ابن معمر" حاكم العيينة آنذاك.
علاقات جوار ودية
وعلى صعيد علاقاته بالإمارات المجاورة، فقد ساعد الإمام محمد بن سعود، دهام بن دوّاس حاكم الرياض آنذاك، عندما طلب منه العون للقضاء على الذين خرجوا عليه في الرياض، وبالفعل كان للإمام محمد بن سعود دور كبير في استعادة دهام لحكمه. ويقول د. العوني: "كان بإمكان الإمام محمد بن سعود أن يستغل هذه الفرصة وأن يشكل قوته ويقضي على دهام بن دواس ويسيطر على الرياض، إلا أنه كان يعطي الأولوية لاستتباب الأمن واستقرار الأوضاع السياسية وازدهار التجارة".
كما بنى الإمام المؤسس علاقات قوية مع آل معمر حكام العيينة، على الرغم من اندلاع بعض المعارك بين الطرفين في بعض الأحيان، في إطار التنافس على السيطرة على المناطق المجاورة للدرعية والعيينة.
العلاقات مع القوى الإقليمية
لم يكن للدولة العثمانية وجود مباشر في الجزيرة العربية، بل كان لها بعض القوى التي تعترف اسميًّا بهم، مثل بني خالد حكام الأحساء، والأشراف حكام الحجاز، فاتبع الإمام المؤسس في البداية سياسة التعامل الحذر وتجنب الصدام مع الدولة العثمانية ووكلائها في الجزيرة العربية.
ولم يكن حكام الحجاز يتوجهون إلى الدرعية، وكان شاغلهم الأساسي ألا تحدث تدخلات في المناطق التي تقع تحت سلطانهم، لكن حكامهم بدؤوا في مراقبة الوضع عندما رأوا توسع الدولة السعودية ومن ثم حدثت المعارك بينهم وبين الإمام محمد بن سعود.
أما الأحساء فكان هناك ما يمكن وصفه بـ"المناوشات" بين آل عريعر وحكام الدولة السعودية الأولى، لكنها لم تصل حد التدخل في الشؤون السياسية الداخلية. وكان زعماء بني خالد من آل حميد في الأحساء ينافسون الدولة السعودية في نجد، ووقع صراع بينهم وبين الإمام محمد بن سعود. وعندما عمد الإمام المؤسس على التوسع التدريجي للدولة خارج نجد، بدأ بمواجهة بني خالد، وتكلل انتصاره عليهم بضم مناطق شرقي الجزيرة العربية إلى الدولة السعودية.
نماء اقتصادي في الدرعية
في حديثه لـ"أخبار 24" يشير د. العوني إلى أن الإمام محمد بن سعود كان حريصاً كل الحرص على أن يسود الأمن والاستقرار في الدرعية، ومن هذا المنطلق عمل منذ توليه حكم الدولة على أن تكون الدرعية مزدهرة، فنشطت الحركة الاقتصادية وقصد الدرعية التجار من كل صوب.
ويشير إلى انتشار الدكاكين والمحلات التجارية، وكذلك إسطبلات الخيل، وكان يقصد الدرعية أهالي عدد من المناطق المجاورة، كالعيينة وحريملاء وضرما لأغراض البيع والشراء، وكذلك أهل الأحساء. وكانت الدرعية تقع على طريق الحجاج القادمين من شرق الجزيرة العربية.
حراك ثقافي
وضمت الدرعية العاصمة علماء أجلّاء، من أبرزهم عبدالله بن عيسى، وكان لهم دور كبير جداً في إحياء الحياة الثقافية، من خلال إنشاء الكتاتيب ومراكز التعليم الأولى، وكان هناك قضاة، وحلقات علم في الصباح والمساء.
يقول د. العوني إن الإمام محمد بن سعود كان داعماً جداً للحراك الثقافي في الدرعية، وحرص على انتظام أبنائه في الكتاتيب وحلقات العلم والمشاركة في الحراك الثقافي.
وأضاف أن هذا الحراك الثقافي ساهم في تزويد الإمام محمد بن سعود بالمعرفة والثقافة والعلم الشرعي؛ مما جعل الدرعية من أكثر المناطق المزدهرة ثقافياً في شبه الجزيرة العربية في تلك الحقبة؛ وهو ما مهد لانطلاق الدولة وتوسعها.
0 تعليق