نزوح لا ينتهي بحثًا عن الحد الأدنى من العيش الكريم

صحيفة عمان 0 تعليق ارسل طباعة تبليغ حذف

من شمال غزة المُعدَم إلى جنوبها الكارثي المكتظ

وقف وائل المصري، 33 عامًا، من مدينة غزة، أمام منزله الذي كان ذات يوم يعجُّ بالحياة، شعر بوخزة حادة في صدره وهو يتأمل الركام. اجتاحت ذاكرته صورٌ لأطفاله يلعبون في فناء المنزل، وضحكاتهم التي كانت تملأ الأجواء.

غصةٌ خانقة تسللت إلى حلقه، وكأن أنفاسه تزداد ثقلاً مع كل تفصيلة مدمرة تقع عليها عيناه. ليجد نفسه محاطًا بالركام. لم يتبقَ من جدرانه سوى أكوام من الحجارة والغبار، أما الذكريات فقد تلاشت تحت الأنقاض.

نظر وائل إلى المكان بعينين ذاهلتين، كأنه يبحث عن دليل على أنه كان هنا يومًا، عن صوت ضحكات أطفاله، أو رائحة الطعام الذي كانت تعدّه زوجته. لكن لا شيء.. سوى الصمت القاتل.

لم يكن القرار سهلًا، لكنه كان ضروريًا. حمل أطفاله الثلاثة وعاد أدراجه إلى الجنوب، إلى خان يونس، التي نزح إليها أول مرة بحثًا عن الأمان.

يقول لـ«عُمان»: «نزلت على غزة أول فتحة، أشوف الوضع ودورنا، لقيت البيت تبعي رمل، وبيت أهلي رايح، كله رايح. لم أتحمل هكذا، كيف أتعايش مع هذه الأمور؟».في كل خطوة كان يزداد يقينًا بأن البقاء في الشمال الآن يعني مواجهة حياة غير ممكنة، حيث لا ماء، ولا كهرباء، ولا أي من مقومات الحياة.

لا موضع لخيمة في الشمال

وسط الخراب، واجه وائل واقعًا أكثر قسوة مما تخيله. لم يجد حتى مكانًا لنصب خيمته. سار لمسافة ساعة ونصف، فقط ليملأ جالون مياه، في مشهد أعاد إلى ذاكرته صورًا مأساوية عن الحصار والجوع والعطش.

ويضيف: «أناشد المجتمع الدولي بتوفير أدوات لصيانة خطوط المياه، فالوضع في غاية السوء»، قالها وهو يتأمل طوابير النازحين العائدين بخيبة، ليواجهوا الحقيقة نفسها، ثم يعودوا مجددًا إلى الجنوب.

تحول النزوح إلى رحلة دائرية من المعاناة، حيث تشير التقديرات إلى أن نحو 70% من العائدين إلى شمال غزة اضطروا للنزوح مجددًا بسبب تردي الأوضاع، بينما لا يزال آلاف النازحين في الجنوب يترقبون أي فرصة للعودة.

«لقد تعبت كثيرًا حتى وجدت خيمة فارغة في مركز إيواء. هنا في مدينة خان يونس»، يقول وائل بحسرة، محذرًا من أن النزوح العكسي يتزايد؛ بسبب انعدام الخدمات في الشمال، ما يُحدث اكتظاظًا سكانيًا في الجنوب، لا يختلف تمامًا عن سابقه المحمل بالأمراض والأوبئة، خلال حرب السابع من أكتوبر.

النزوح العكسي.. عودة محفوفة بالمآسي

على وقع الدمار وانعدام الخدمات،وجد العائدون إلى شمال قطاع غزة أنفسهم أمام واقع مأساوي، فرض عليهم النزوح مجددًا نحو الجنوب. في الوقت الذي كانوا يأملون فيه باستعادة حياتهم، اصطدموا بحقيقة أن الشمال لم يعد صالحًا للحياة، وسط استمرار العراقيل التي يفرضها الاحتلال على دخول المعدات الإغاثية لإعادة تأهيل البنية التحتية.

هذه الظاهرة، التي باتت تُعرف بـ«النزوح العكسي»، تكرّس المأساة الإنسانية في القطاع، حيث يضطر الأهالي إلى التنقل بين الجنوب والشمال بحثًا عن الحد الأدنى من العيش الكريم. ومع غياب الحلول، يبقى الأمل معلقًا على إمكانية إدخال الجرافات والبيوت المتنقلة والمعدات الأساسية، وهو أمر لا يزال الاحتلال يماطل في تنفيذه.

حين فُتح الطريق للعودة، كان سيد محمود، 48 عامًا، من أوائل العائدين رفقة عائلته إلى شمال غزة، معتقدًا أن الحياة قد تعود تدريجيًا إلى طبيعتها. لكنه سرعان ما أدرك أن حجم الكارثة غير مسبوق: «الشوارع مغلقة، البيوت مدمرة، لا توجد مياه، شبكات الصرف الصحي مدمرة». لم يكن هناك سبيل للبقاء في هذه الظروف، فاضطر مجددًا إلى النزوح نحو الجنوب.

لكن سيد، شأنه شأن الكثيرين، لم يستسلم لفكرة التخلي عن الشمال. يقول لـ«عُمان»: «حاولنا فتح بعض الشوارع الرئيسية، لكن لا يمكننا فعل كل شيء وحدنا. نحن بحاجة إلى جرافات ومعدات لإزالة الركام، واستصلاح شبكات المياه والصرف الصحي».

من هنا، يطالب سيد الدول العربية والإسلامية بالضغط على الاحتلال لإدخال المعدات اللازمة، حتى يتمكن الأهالي من إعادة بناء حياتهم في الشمال.

إطلاق النار وانعدام الخدمات السبب

عاد أبو إياد زقوت ، 54 عامًا، إلى بيت حانون، ظنًا منه أن التهدئة قد تسمح له باستئناف حياته. لكن المفاجأة كانت أن الأوضاع هناك لا تزال كارثية. «وين فيه ميه؟ مفيش ميه، فيش مقومات حياة»، يقول بمرارة، مضيفًا أن المحلات فارغة، والطعام شحيح، والناس يعيشون على ما توفره المساعدات النادرة. يواصل حديثه لـ«عُمان»: «أنا عشت حروب قبل، لكن الوضع هالمرة أسوأ بكتير. ما عاد في حياة، وما حد قادر يعيش».

مع استمرارإطلاق النار المتقطع، وعدم وجود مياه أو كهرباء، لم يجد خيارًا سوى العودة إلى خان يونس، في انتظار تحسن الظروف. يرى أبو إياد أن المشكلة الكبرى تكمن في تأخر إصلاح شبكات المياه والصرف الصحي والكهرباء، مطالبًا الجهات المسؤولة بالإسراع في هذه العمليات حتى يتمكن السكان من العودة إلى مدنهم وقراهم بأمان.

في مدينة بيت لاهيا، كانت الصدمة أكبر. محمود عبد العزيز، المسن الستيني، وجد نفسه وسط مدينة تحولت إلى أنقاض. لم يجد حتى مكانًا لنصب خيمته، ولم يتمكن من تأمين مياه شرب لأحفاده. «روحنا على بيوتنا، ففوجئنا بحجم الدمار الكبير، ومفيش أي مقومات للحياة في بيت لاهيا، لا في مياه، ولا في صرف صحي، ولا في كهرباء».

يروي محمود بأسى، مضيفًا خلال حديثه لـ«عُمان» أنه اضطر للمبيت في العراء، حيث البرد القارس يزيد من معاناة الأطفال وكبار السن. «ما بنعرف شو نعمل، إحنا في وضع مأساوي، وما حد حاسس بنا».

أمام هذا الواقع، كان الخيار الوحيد هو العودة إلى الجنوب، حيث يزداد الاكتظاظ، لكنه على الأقل يتيح فرصة للوصول إلى المياه والطعام، وإن كان ذلك بشق الأنفس.

عرقلة الاحتلال جهود الإغاثة

رغم جهود الوسطاء لإدخال المعدات الثقيلة، مثل الجرافات والرافعات، والبيوت المتنقلة، يفرض الاحتلال قيودًا صارمة على دخولها، من خلال تعطيل الموافقات الأمنية، وتقليص الكميات المسموح بها، وتأخير إجراءات العبور عبر المعابر.

فمع سريان اتفاق وقف إطلاق النار، أواخر يناير الماضي، رفضت حكومة الاحتلال بقيادة بنيامين نتنياهو، إدخال أي من معدات إغاثية ثقيلة إلى القطاع، لدواعٍ أمنية، لم تذكرها، على الرغم من وجود اتفاق مسبق. ومع تزايد الضغط الدولي، سُمح، في 19 فبراير، بدخول دفعات محدودة، شملت 7 جرافات ورافعة واحدة عبر معبر رفح.

لكن هذه الكميات تبقى غير كافية، وفقًا للمكتب الإعلامي الحكومي في غزة، الذي أكد أن ما دخل حتى الآن مخصص للمؤسسات الدولية والمستشفيات الميدانية فقط، دون توفير حلول للإيواء العام.

في هذا السياق، أكد مدير عام المكتب، إسماعيل الثوابتة، أن «إسرائيل تتنصل من التزاماتها، وترفض إدخال 200 ألف خيمة و60 ألف منزل متنقل، وهو ما يشكل انتهاكًا لاتفاق وقف إطلاق النار».

إلى أين؟

مع استمرار النزوح العكسي، وتفاقم معاناة السكان بين الشمال والجنوب، يبقى السؤال الأهم: متى تصبح العودة إلى الشمال عودةً إلى الحياة، لا إلى الموت البطيء؟ فبعد رحلة النزوح الطويلة، على مدار 15 شهرًا هي عمر الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة، ظن الغزيون أن العودة قد تعيد إليهم شيئًا من الحياة التي فقدوها، لكنهم فوجئوا بالرجوع إلى خراب يلفه الجوع والعطش. خراب يحتاج إلى معدات ثقيلة لإزالته، وتشريد يتطلب بيوت متنقلة للإيواء، وهي مساعدات ضرورية نصت عليها المرحلة الأولى من اتفاق وقف إطلاق النار، لكن حكومة نتنياهو تتلكأ في إدخالها.

إخترنا لك

أخبار ذات صلة

0 تعليق