يُعد الفساد الإداري والتطرف الفكري وجهين لعملة واحدة هي الخيانة، ولطالما كان الفساد الإداري أحد أبرز معاول الهدم داخل المؤسسات، فهو أكبر ما يهدد نجاح واستقرار بيئات العمل ويؤدي إلى العبث بالمصلحة العامة، لكن حين يرتبط بالأيديولوجيا المتطرفة، فإنه يتحول إلى عمليات خيانة منظمة، حيث تصبح السلطة وسيلة لخدمة أجندات خفية أو أحقاد دفينة في صدور المتطرفين.
صاحب الأيديولوجيا المتطرفة لا يرى منصبه من المنظور الطبيعي لأي مواطن نزيه كأمانة ومسؤولية، بل كأداة لتنفيذ مشروعه الفكري، فهو يستخدم سلطته على اعتبار أن الأيديولوجيا تتجاوز منظورها كفكر سياسي أو ديني، إلى تنفيذ أجندات تخدم توجهه الفكري والتنظيم الذي ينتمي إليه، ليتخذ من منصبه وسيلة لممارسة أساليب غير شرعية ومهنية.
وترى أصحاب الأفكار المتطرفة سواء كانوا ينتمون إلى تنظيمات أو كونهم مجرد مخلفات لتنظيمات سابقة، يحاربون كل جديد وكل تطوير في مؤسساتهم في جميع القطاعات، حكومية وخاصة وشبه حكومية، وحتى إن قبلوا بالأفكار الإبداعية والمشاريع المبتكرة في الاجتماعات الرسمية، فهم على أرض الواقع يحاربونها حتى يسقطونها، بل إنهم يعملون على محاربة الكفاءات، وتوظيف أشخاص يقومون بعلمهم أو دون علمهم بفتح قنوات تمويلية أو تسخير أنظمة تقنية أو حتى تسريب معلومات يستفيد منها أرباب أيديولوجيتهم المتطرفة، أو بهدف تعطيل مشاريع حيوية، والوقوف في وجه التنمية.
إن من يمارس الفساد الإداري وهو يلبس في الوقت نفسه عباءة الأيديولوجيا المتطرفة، يجعل من وجوده في مناصبه مشروعا طويل الأمد لتدمير المؤسسات من الداخل، لأنه وبكل بساطة لا يكتفي بسرقة المال والعقود بل يعمل على سرقة العقول والولاءات وتعطيل المشروعات، فالمتطرف فكريا يعيش حالة من الغطرسة تجعله يتصرف وكأنه الحاكم المطلق داخل مؤسسته كمن يقول «أنا المعزب هنا»، متجاوزا الأنظمة والقوانين، فارضا رؤيته الأحادية على موظفيه، حتى تصبح المؤسسة أو إدارته انعكاسا لتوجهاته لا أكثر، وحينما يعترضه من يخالفه، يمارس أساليب الإقصاء والتهميش، ظنا منه أنه فوق المحاسبة.
كيف لا، وصاحب الأيديولوجيا المتطرفة لا يتمنى أن يجد في طريقه أي مبدع أو موهوب، لكيلا يصبح حجر عثرة في طريق فساده، في حين أنه على أتم الاستعداد لاستخدام أقسى أنواع الأساليب وأكثرها طغيانا للمحافظة على منصبه أو الصعود إلى مناصب أخرى، من خلال سحق أي موظف يقف في طريقه بأساليب في ظاهرها نظامية وفي حقيقتها مخالفة ولا إنسانية، لأنه يدرك أن أصحاب العقول المبدعة هم التهديد الأكبر له، لأنهم قادرون على كشف فساده وعرقلة مخططاته، لذلك يسعى لمحاربتهم عبر التهميش والإقصاء، أو إغراقهم في إجراءات معقدة تحول دون تقدمهم، مما يخلق بيئة طاردة للكفاءات، وتعزز ثقافة الولاء على حساب الأداء.
وكلما خدمت الظروف صاحب الأيديولوجيا المتطرفة، ووجد من هم على شاكلته في مؤسسته أو مؤسسات أخرى، يصل بلا شك إلى مرحلة من الثقة بالنفس الممزوجة بالهذيان، تجعله يعتقد أنه صاحب القرار الأول والأخير في المؤسسة، فلا يصح إلا مزاجه الشخصي ورؤيته الإلهية للأشياء، ومن يعترض على ذلك، فسيواجه ممارسات الإقصاء وحملات التشويه التي تجعل منه خائنا للوطن، لمجرد أنه سأل: لماذا نفعل هذا؟ أو دعنا نفعل شيئا أفضل من أجل مصلحة العمل.
ومن نعم الله علينا أن مكّنت الدولة أبناءها من تقلد المناصب القيادية في القطاعات الحكومية والخاصة، لكن ذلك ليس امتيازا شخصيا، بل مسؤولية وطنية، وتقدير للكفاءات، إلا أن صاحب الأيديولوجيا المتطرفة لا يرى في ذلك فرصة ليكون مواطنا صالحا، بل يعده مجرد وسيلة لتعزيز أفكاره، مما يعكس انحرافا فكريا عميقا، فهو لا يقدر ثقة دولته، بل يستغلها لأغراض مشبوهة.
وعندما يصل صاحب الأيديولوجيا المتطرفة إلى منصب إداري، فهو لا يرى استراتيجية ومنهج عمل وأهدافا وبيئة عمل مبدعة ومستقرة، ومصلحة عامة، بل يرى فرصة ذهبية لإقامة إمبراطوريته الخاصة، فأول خطوة يقوم بها تعيين «فرقة حسب الله» من التابعين الذين لا يعرفون من العمل سوى كلمة «سم طال عمرك»، وبهذه الطريقة تتحول المؤسسة إلى «غرفة عمليات» لخدمة مشروعه الأيديولوجي.
إن ممارسات الفساد الإداري ليست جميعها أخطاء فردية، أو مطامع أنفس ضعيفة، أو حتى مصالح رؤوس كبيرة، بل إن بعضها تدل على ارتباط أعمق بتوجهات فكرية، فالتطرف الأيديولوجي لا يعيش في فراغ، بل يعتمد على شبكات دعم تعمل على زعزعة استقرار بيئات العمل والمشاريع الطموحة، من خلال أدوات إدارية تبدو في ظاهرها شرعية، لكنها في جوهرها تخدم أجندات تخريبية، وعندما تجتمع الأيديولوجيا المتطرفة مع الفساد الإداري، تتحول المؤسسات إلى أوكار تخدم مصالح ضيقة، بدلا من أن تكون أدوات تنمية وتطوير.
لذا، فإن محاربة التطرف الفكري داخل المؤسسات لا تقل أهمية عن محاربته في ساحات أخرى، لأن خطره لا يتوقف عند نشر الأفكار، بل يمتد ليهدد كفاءة الإدارة ونزاهتها، وتدمير بيئات العمل والعبث بالمصلحة العامة، مما يستوجب رقابة صارمة، ووعيا مجتمعيا يرفض أن تتحول المناصب إلى أدوات خيانة مقنعة.
ومن أجل ذلك ينبغي اليوم التكاتف والعمل الجاد ورفع حس المسؤولية لدى الموظفين عموما والوقوف مليا عند رؤية تلك الممارسات لكشف كل فاسد متطرف، وذلك للمساهمة في تمهيد الطريق للجيل المقبل، الذي رسمت له الدولة حياة رغيدة، انبثاقا من رؤية المملكة 2030، التي تفرض القضاء على أرباب الفساد، والأيديولوجيات المتطرفة، على حساب التكريس لمفهوم الوطن، الذي لا يعلو على اسمه وعمق مفهومه أي شيء.
لقد وضع ولي العهد الأمير محمد بن سلمان بن عبدالعزيز أولى أساسات الحرب على الفساد، وهذا يستوجب اللحاق بركبه، وكأبناء لهذا الوطن، من واجبنا الإبلاغ عن المتزلفين والكاذبين والفاسدين، أيا كانت مواقعهم أو مناصبهم، كما ينبغي على الجهات الرقابية وعلى رأسها هيئة الرقابة ومكافحة الفساد، التي ينبغي أن تقوم بدورها على أكمل وجه، وتعمل على تكثيف جهودها وعدم التساهل أو التراخي في كشف أخطر فئة من الفاسدين وهم المتطرفون فكريا.
0 تعليق