ذلك التأثير لم يأتِ من فراغ، بل من موقعها الاستراتيجي النادر كعاصمة للتجارة بين الشرق الآسيوي والغرب الأفريقي، والشمال الأوروبي والجنوب العربي، وهو ما خبره هو شخصياً خلال رحلات التجارة الكبرى التي قادها من مكة شمالاً، ذلك التأثير هو ما توّج الإمبراطورية العربية مهيمنة على العالم القديم لخمسة قرون أخرى.
لكن ما الذي سيجعل من سوريا «اليوم» دولة ذات تأثير في عالم متصارع لا يؤمن إلا بالأقوياء، وهي دولة مثقلة بالتأخر والتراجع التنموي، وكأنها قادمة من منتصف القرن الماضي؛ بسبب تجهيل النظام السابق لها؟
لقد تراجع لبنان المثقف، واختفى العراق المتعلم، ودخلت بعض الدول العربية في دوامة الفشل والاحتراب، (سوريا، ليبيا، السودان، اليمن، على سبيل المثال)، فأصبح من المُلحّ إعادة تقييم مستقبل الإقليم وعلى ماذا سيتم بناؤه.
العالم اليوم يبني مصالحه واهتمامه من خلال طريق واحد: كم سيحقق من عوائد نتيجة (الاقتصاد، الاستثمار، التنمية، العلاقات، المشاريع، المساعدات)، إذ لم تعد المجاملات والهبات هي الطريق الأمثل لبناء علاقات صحية.
بقيت سوريا البعث لأكثر من خمسة عقود؛ تقود ما يسمى «دول الطوق»، الذي انتهى بمحور الممانعة، فلا دول الطوق نجحت في تحرير فلسطين، ولا الممانعة حررت نفسها.
كان لسوريا -البعث- دور واضح في استخدام الصراع العربي الإسرائيلي لصالح بقاء النظام، وبالرغم من تلقيهم هزائم وضربات موجعة ومتتالية، كان الجواب يأتي دائماً تحت شعار (الرد في الوقت والزمان الذي تقرره سوريا)، فلا الرد جاء، ولا الوقت حان، واكتفت سوريا القديمة بالهيمنة على القرار اللبناني والفلسطيني، بالسيطرة المباشرة وغير المباشرة على بعض التنظيمات الفلسطينية، واللبنانية.
في حروب 76 - 73 - 82، لم يكن النظام جاداً في مواجهة إسرائيل كما كان يُصدر إعلامه، نعم كان يؤدي دوره ببراعة من خلال نشر الانتصارات الواهية، وحشد الرأي العام حول مواقفه، لكن أي نتيجة لم تتحقق.
اكتفى النظام بمكاسبه الاقتصادية والسياسية والأمنية في لبنان، والحد من استقلال القرار الفلسطيني، واستخدم فلسطين لتصفية الحسابات وابتزاز الآخرين، وكانت مساهمة سوريا في الاقتصاد العربي ضعيفة جدّاً، وأبقى النظام على نموذجه الخاص، بإفقار الجميع، وحصر الفرص من خلاله فقط، حتى يضمن ولاء المكونات المختلفة وإبقاءها تحت سيطرته، نجح في مسعاه، وعاشت سوريا على الكفاف.
اليوم لم يعد العرب في حاجة لسوريا التي تردد عبر إذاعتها أناشيد حماسية للتصدير والتكسب، أو سوريا التي تدير المليشيات وتستقطبها إلى أراضيها، ولا سوريا لتي استبدلت اقتصاد الزراعة والإنتاج والتصنيع، بالكبتاجون، بل أن تعود سوريا -العبقرية- أكثر حيوية، وأكثر استعداداً للمساهمة في الاقتصاد العربي، من خلال تعظيم موقعها الجغرافي التاريخي، الذي قد يضعها مرة أخرى ضمن تاج الاقتصاد العربي، كما وضع هولندا في وسط أوروبا، ممراً للبضائع وإعادة التصدير نحو العالم.
0 تعليق