كان سفرُنا إلى زنجبار يوم الثلاثاء العاشر من ديسمبر 2024، عبر الناقل الوطني (الطيران العُماني). وأنا أتابع خارطة الرحلة فـي الشاشة المثبتة أمام ناظري فـي المقعد، خطر ببالي العمانيون العظماء الذين قطعوا هذه المسافات الشاسعة بسفن شراعية تعتمد فقط على الرياح الموسمية محرِّكًا وحيدًا قادرًا على مناطحة أمواج البحار العاتية ومقاومتها. كم كان صبرُهم عجيبًا وإرادتُهم حديدية صلبة لا يعرفون للمستحيل معنى، ولا يؤمنون بهول الصعاب والمشاق فـي رحلات بحرية خطرة غير مضمونة العواقب. ورغم أنّ احتمال أن تصل تلك السفن للسواحل الأفريقية الشرقية قائم، إلا أنه غير مؤكد؛ فقد يبتلعها البحر ويتحول كلُّ الركاب والجنود إلى طعام لأسماك القرش الضارية، (وكثيرًا ما حصل هذا). ومع ذلك قَبِل العُمانيون القدماء هذه التحديات الجسام، وشادوا تلك الامبراطورية مترامية الأطراف، وأثبتوا بجدارة أنهم سادة البحر، مشيدين الممالك الحصينة التي نشدّ الرحال إليها الآن، وحافرين اسم عُمان بكلِّ تفرده فـي العمق الأفريقي.
لم يكن وصول العُمانيين لسواحل أفريقيا الشرقية نزهة بحرية سعيدة؛ بل العكس، فقد خاضوا نزالات شرسة لتطهير المنطقة من البرتغاليين، وهم لمن يعرفهم جيدًا أعداء لا يعرفون معنى الرحمة، يؤمنون فقط بأنّ فناء الآخر هو السبيل الوحيد المفضي للوصول لغاياتهم مهما كانت شريرة؛ لذا احتلوا الساحل الشرقي الأفريقي كله، ووصلوا إلى الهند والبصرة مرورًا بعُمان، لكن الجيوش العُمانية البحرية الهادرة خلال فترة حكم اليعاربة شلت أيادي البرتغاليين وطهّرت المنطقة كاملة منهم، تعزيزًا وتأكيدًا للنفوذ العُماني فـي المحيط الهندي، فضلًا عن حماية الطرق. وقد استجاب الإمام سيف بن سلطان اليعربي (قيد الأرض) لنداء أهل أفريقيا الشرقية وطهّرها من شرور البرتغاليين. والمؤكد أنّ تلك الانتصارات التي حققها اليعاربة كانت مقدمات لبناء الإمبراطورية العُمانية خلف البحار حتى نقل السيد سعيد بن سلطان عاصمة ملكه من مسقط إلى زنجبار عام 1832، وظلّ مقيمًا بها بقية حياته، ودُفن فـي المقبرة السلطانية التي بناها بجانب بيت الساحل؛ فقد كان من المستحيل أن تسيطر حكومة عُمان سيطرة فعلية على ممتلكاتها البعيدة فـي شرق أفريقيا إلا باتخاذها قرارًا مثل ذلك.
وبينما أنا منغمس فـي تذكر هذه الأمجاد المضيئة، إذا بالمضيفة تنتشلني مما أنا فـيه، عندما توقفت أمامي لتقدِّم الضيافة المعتادة فـي رحلات كهذه. ورغم أنّ الطعام كان جيدًا ويستحق الإشادة، غير أني لاحظتُ أنّ العصائر المقدّمة لم تكن عُمانية، مع وجود أكثر من شركة عُمانية تنتج العصائر نفسها. لحظاتُ اليقظة التي قطعت عليّ حبل الاسترسال الجميل فـي أمجاد الآباء والأجداد جدّدت فـي نفسي ملاحظة هي أنّ كلَّ مقاعد الطائرة مشغولة ولا يوجد مقعدٌ واحدٌ فارغ، وهو ما سيحدث فـي رحلة العودة إلى مسقط بعد أسبوع، ذلك دفعني لأتساءل عن السبب الحقيقي لخسائر الطيران العُماني، ولماذا تُخفّضُ الرحلات إلى زنجبار ودار السلام إذا كانت كلّ المقاعد تُحجز بالكامل؟! وهذا التساؤل لم يكن وليد اللحظة، فقد خطر ببالي فـي رحلة مماثلة إلى دار السلام قبل عدة سنوات، وكان الأمر مشابهًا، ممّا يشير إلى أننا نحتاج فقط إلى إعادة تخطيط رحلات الطيران إلى أفريقيا - بل وآسيا - وجدولتها. وأستطيع أن أجزم أنّ تخفـيض الرحلات إلى دول مثل تنزانيا وباكستان والهند وسريلانكا وتايلاند، أو استخدام طائرات أصغر يفسح المجال للشركات الأخرى لاستقطاب الركاب على حساب الطيران العماني. وعلى ضوء هذه الحقائق لن نندهش أن يأتي التقرير السنوي ليؤكد بأنّ الطيران العُماني يحقق خسائر. ومما لاحظته أنّ فـي الخارطة هناك إشارة تتكرر إلى مدينة «طنجة»، فكنتُ أستغربُ ما الذي أتى بطنجة من المغرب إلى الشرق الأفريقي حتى تبين أنّ المدينة المقصودة هي «تانجا» التنزانية.
عدتُ للخريطة أمامي على الشاشة الصغيرة لأتابع خط سير الطائرة. وبما إنني كنتُ أجلس على النافذة، فطبيعي أن ألقي نظرات على المحيط الهندي وعلى الساحل الشرقي للقارة الأفريقية، مقترنة بتفكير عميق عبر مقارنة غير متكافئة ما بين رحلتنا ونحن معلقون ومحلقون بين السماء والأرض، وبين رحلات الأجداد؛ فالفرقُ شاسع. كنتُ أتأمل السواحل التي مرّ بها العُمانيون من مطرح وصور ومحوت ومرباط وغيرها فـي رحلات الشتاء والصيف، وفـي تلك اللحظة تذكرتُ والدي - رحمه الله - الذي قطع تلك المسافة من ولاية أدم فـي داخلية عُمان على الإبل حتى محوت، بعد أن زوّده الشيخ سعيد بن هلال المحروقي - رحمه الله - برسالة لأحد الربابنة طالبًا منه بأن يرعاه وييّسر له أموره. ومن هناك ركب البحر إلى زنجبار، التي أشدّ إليها الرحال الآن بعد عقود طويلة من الزمن، غير أنّ ثمة فرقًا كبيرًا بين مطية والدي ومطيتي. والدي توجّه إليها عبر السفن الشراعية المرتهنة فـي اندفاعها إلى قوة الرياح وسماحة الأمواج العاتية، وقبل ذلك إلى لطف الله عز وجل ورحمته. قصد أبي زنجبار بحثًا عن لقمة العيش بعد أن عزّت عليه فـي ذلك الوقت، وللمرة الثانية فرق واسع بين هدف رحلته ورحلتي؛ هو توجّه لزنجبار من أجل لقمة العيش، وأنا أتوجه إليها الآن لأتحسس مواضع خطى والدي على تلك الأرض الأفريقية، وليتسنى تقدير الجهد الكريم الذي بذله - وهو حال جميع العُمانيين الذين هاجروا إلى هناك -. نعم كانت الرحلة صعبة، هكذا يمكنني وصفها وأنا على متن الطائرة، غير أنني سرعان ما أعود لعقد المقارنة بين رحلتي ورحلة أبي، فإذا كانت رحلتي صعبة كما أتصورها وأنا على مقعدي الوثير والتكييفُ يدثرني ويغلفني، فـيا ترى كيف لي أن أصف رحلة الوالد؟ هل أقول كانت صعبة، قاسية، فادحة، متبعة، مؤلمة؟ لا أدري. ما أعرفه أنّ رحلة أبي أو هجرته كانت علقمًا مقارنة برحلة الطعام الفاخر والشراب الذي اعترضتُ عليه. فقد سألتُ نفسي بغير أمل فـي الحصول على إجابة تشفـي وتريح: هل كانت لقمة العيش تستحق إلى تلك المغامرة؟!
كانت زنجبار على مبعدة دقائق قليلة وأنا أتأملُّ من نافذة الطائرة، المحيطَ الهندي ذلك العملاق الأزرق المهول. كنتُ أتساءل فـي قرارة نفسي: مَنْ يستطيع ترويض هذا العملاق! ووجدتُني أجيب نفسي دون تردد: إنه «قيد الأرض»؛ الإمام سلطان بن سيف اليعربي، تلك الشخصية العُمانية الفذة التي استطاعت حقًّا ترويض هذا المحيط فـي غفلة من الزمن ومن المحيط نفسه. لقد تمكن هذا القائد العظيم من طرد البرتغاليين من آسيا وأفريقيا، بعدما استنجد به أهالي شرق أفريقيا. وعندما أقول إني منبهرٌ بشخصيته، فلأنّ الرجل أساسًا ليس من منطقة ساحلية وإنما من الرستاق البعيدة عن البحر، لكن العزم والإرادة والإيمان بحتمية نصرة الحقّ، كلّ هذا جعل منه شخصية استثنائية فـي صحائف التاريخ، ولأنهم نصروا الله فقد نصرَهم الله. ونحن نعلم أنّ الوجود العُماني فـي الشرق الأفريقي عامةً وفـي زنجبار خاصة قديم ويعود لمئات السنين، ولكن وصول السيد سعيد بن سلطان إلى هناك كان نقطة تحوّل هامة فـي تاريخ الشرق الأفريقي كله؛ فهو الذي جعل من الجزيرة النائية ملتقى الدول الكبرى فـي ذلك الزمان، بعد أن أصبحت زنجبار عاصمة مركزية لحكمه. لذا كان الرجل بصيته ومجده رفـيقي فـي تلك الساعات الخمس فـي الجو، وكنتُ أتخيله وأسطوله الضخم الذي وصل به إلى هناك لأول مرة عام 1818م، وما لبث أن اتخذ من زنجبار عاصمة لمملكته مترامية الأطراف برًا وبحرًا، ووجّه همتّه لرفع شأنها، فزرع فـيها القرنفل الذي اشتهرت به زنجبار فـي جميع دول العالم، وكان وقتها سلعة تعادل البترول الآن، وبنى المساجد والقصور، ونقل زنجبار من جزيرة نائية تعج بالأكواخ المتواضعة إلى عاصمة بهية الطلعة متوشحة بالخضرة والجمال الأخّاذ، تتسابق الدول الكبرى إلى كسب ودها ورضاها.
كنت أسأل نفسي: هل يا ترى سأرى آثار «بيت المتوني» الذي سكنه؟ وما هو حال «بيت العجائب» الآن؟ وما موقف الزنجباريين اليوم من العُمانيين بعد ستين عامًا من الانقلاب الدموي الذي أطاح بالحكم العُماني هناك؟ هل ما زالوا مشحونين بالكراهية أم أنَّ هذه السنين الطويلة استطاعت أن تغيّر مشاعرهم تجاهنا؟ هنا تذكرتُ ما أخبرني به الصديق محمد بن سلطان البوسعيدي الذي زار زنجبار بعد غياب سنوات. قال محمد: «لم أجد زنجبار التي تركتُها، وجدتُ 90% منها قد تغيّر. الناس محترمون كما ينبغي، واللباس الإسلامي واضح عند النساء، ولا يمر عليك أحد إلا ويحييك بتحية الإسلام: (السلام عليكم)».
0 تعليق