ترجمة: علاء الدين أبو زينة
أدى الجفاف في الفترة بين الأعوام 2006 - 2011 إلى إطلاق موجات من الهجرة الجماعية من المناطق الريفية النائية إلى المراكز الحضرية. ونزح ما يقدر بنحو 1.5 مليون من سكان الريف إلى أطراف المراكز الحضرية. وكان جميع النازحين السوريين "لاجئين مناخيين" من دون وظائف ولا دخل، وقبل كل شيء، من دون أي أمل في بدء حياة جديدة. وبينما كانت سورية تجف، كذلك فعل أيضًا أي دعم متبق من الحكومة للمزارعين. وكان تركيز اليأس شديد القابلية للاشتعال بحيث يمكن أن يتحول بسهولة إلى حريق.اضافة اعلان
* * *
انتهى الجفاف الذي جلبته الأحوال الجوية، والذي اجتاح منطقة الهلال الخصيب (الممتدة من دجلة والفرات إلى وادي النيل) في العقد الأول من القرن الحادي والعشرين أخيرًا إلى تقويض نظام الأسد في سورية، وإجبار الرئيس السوري بشار الأسد على الفرار إلى موسكو تحت جنح الليل الشهر الماضي. وللوهلة الأولى، يبدو الجفاف أو ما يحركه من تغيّر المناخ لا علاقة له تقريبًا بحدث جيوسياسي مثل سقوط نظام الأسد. ومع ذلك، كان سقوط النظام عملية طويلة استغرقت العديد من السنوات، ولعبت القضايا المتعلقة بالمناخ دورًا كبيرًا فيه.
بدأ تراجع نظام الأسد بحلول موجة جفاف طويلة الأمد في العام 1998، لم يشهد الشرق الأوسط لها مثيلًا في القرون التسعة الماضية. ووصلت شدة الجفاف ذروتها في الأعوام ما بين 2006 - 2011 في شمال شرق سورية، الذي يشكل سلة الخبز في البلاد، ويضم منطقتي الفرات والجزيرة. وتنتج هذه المناطق ثلثي محصول البلاد، وخاصة محصول القمح الأساسي في سورية.
في ذروته، تسبب الجفاف في انهيار الزراعة، التي تشكل المرساة الخضراء للاقتصاد السوري. وانخفض الإنتاج الزراعي، الذي يولّد ربع الناتج المحلي الإجمالي للبلاد، إلى 17 في المائة. لكن هذا التأثير الكلي لا يعكس الدمار الذي ألحقه مباشرة بالملايين من سكان الريف والمزارعين والرعاة الذين انخفض إنتاجهم الزراعي الفردي إلى الصفر أو قريبًا من الصفر. وأصبحت سورية، التي كانت الدولة الوحيدة في منطقة الهلال الخصيب (مصر والعراق وإسرائيل والأردن ولبنان وفلسطين) المكتفية ذاتيًا في إنتاج الحبوب الغذائية، مستوردًا للقمح في العام 2008.
كان حافظ الأسد، والد بشار، الذي حكم البلاد من العام 1971 إلى العام 2000، قد أسس عهده على الأيديولوجية الاشتراكية البعثية. وساعد ذلك النهج في توسيع الزراعة من خلال دعم التكلفة دائمة التزايد للمدخلات الزراعية -وحتى التأمين ضد فشل المحاصيل الذي كان متكررًا في النظام الزراعي للأراضي الجافة. ودعمت الدولة السورية الملايين من سكان الريف والمزارعين ومربي الماشية من الصدمات غير المتوقعة الناجمة عن الأحوال الجوية والسوق. ولكن، قام ابنه من ناحية أخرى بنقض كل ذلك. بتقديم السياسات النيوليبرالية، ترك بشار الأسد الجميع ليواجهوا مشاكلهم وحدهم. وفي عهده، ازدهر المزارعون الأغنياء برأس المال بينما استمر الباقون في السقوط من خلال الشقوق.
على الرغم من أن زراعة الأراضي الجافة هي الدعامة الأساسية للاقتصاد السوري، فإن في البلاد جزء كبير من الزراعة المروية التي تُروى من نهر الفرات في الغالب، وبدرجة أقل بكثير من نهر دجلة. ولكن مع تغير المناخ، كان كلا المجريين المائيين يجفان، وخاصة نهر الخابور، الرافد الرئيسي لنهر الفرات في سورية، الذي يزود بالمياه منطقة الحسكة الشمالية الشرقية. وكان نهر الخابور هو المصدر الأيقوني للزراعة السورية لآلاف السنين، حيث أكسبته أهميته للزراعة ورود ذكره في "العهد القديم" باسم "هابور". وبعد أن جف، لم يعد نهر الخابور يتمكن الآن من الوصول إلى نهر الفرات، وهو فشل زرع الشكوك منذ فترة طويلة في العراق على طريق النهر، الذي يعد المستفيد الأكبر من مياه الفرات.
بعد أن ضربه جفاف آخر في منتصف السبعينيات، شهد نهر الفرات انخفاض معدل تدفقه البالغ 15.3 مليار متر مكعب إلى العراق في العام 1973 انخفاضًا حادًا ليصل إلى 9.4 مليار متر مكعب في العام 1975. وفي ذلك الحين، اتهم العراق سورية بتحويل نصيبه من المياه. وألقت سورية باللوم بدورها على تركيا، التي تضم منابع نهر الفرات ودجلة والخابور، في انخفاض التدفق. وعمد العراق، غير المقتنع، بنشر عشرات الآلاف من الجنود على الحدود العراقية السورية في العام 1975. وأجابت دمشق بالمثل. وكادت حرب حقيقية بين الجارين في أعالي النهر والمصب أن تندلع قبل أن يفض الاتحاد السوفياتي السابق الاشتباك الوشيك بين الخصمين العطشانين.
أدى الجفاف في الفترة بين الأعوام
2006 - 2011 إلى إطلاق موجات من الهجرة الجماعية من المناطق الريفية النائية إلى المراكز الحضرية. ونزح ما يقدر بنحو 1.5 مليون من سكان الريف إلى أطراف المراكز الحضرية. وكان جميع النازحين السوريين "لاجئين مناخيين" من دون وظائف ولا دخل، وقبل كل شيء، من دون أي أمل في بدء حياة جديدة. وكان تركيز اليأس شديد القابلية للاشتعال بحيث يمكن أن يتحول بسهولة إلى حريق. وكانت الشرارة التي أشعلت هذا الوضع الجاهز للاشتعال هي تدفق المزيد من اللاجئين القادمين بسبب الجفاف من العراق المجاور، مما جعل المراكز الحضرية وخدماتها النادرة ترزح تحت ضغط غير مسبوق.
بلغ تدفق اللاجئين العراقيين ذروته في العام 2007 بمجموع 1.5 مليون شخص، ليصل العدد الإجمالي إلى جانب النازحين السوريين داخليًا إلى 3 ملايين نازح ولاجئ. وبحلول العام 2010، كان هؤلاء اللاجئون المناخيون يشكلون خمس سكان الحضر السوريين. وفي الفترة بين العامين 2002 و2010، أضافت سورية 50 في المائة إضافيين إلى عدد سكانها الحضريين البالغ 22 مليون نسمة. وهز عدم الاستقرار البيئي الناجم عن الجفاف نظام الأسد في العام 2011، عندما اندلعت الانتفاضة الحضرية، ولأول مرة بدأت قبضة الأسد على السلطة في الانزلاق.
وقعت أول احتجاجات كبرى في "محافظة درعا الريفية الفقيرة المنكوبة بالجفاف" في آذار (مارس) 2011. ومع انتشار الاحتجاجات، أصبحت حمص، أكبر مدينة في سورية من حيث مساحة الأراضي، بؤرة الانتفاضة السياسية. وفي تموز (يوليو) 2012، سقطت حلب، أكبر مدينة في سورية من حيث عدد السكان، في أيدي المعارضة. وفي العام 2013، احتلت المعارضة السورية الرقة على نهر الفرات، التي تقع بجوار أكبر سد في البلاد (سد طبقة) وأكبر خزان (بحيرة الأسد). وفي كانون الثاني (يناير) 2014، استولى تنظيم "داعش" على الرقة لتصبح عاصمة خلافته.
لم يكن لدى نظام الأسد، الذي يفتقر تمامًا إلى الموارد ويخضع لنظام عقوبات لا يرحم، سوى القليل من الوسائل لمساعدة السوريين اليائسين الذين يكافحون من أجل البقاء. وعلى الرغم من فقره في الموارد البيئية والاقتصادية للتعامل مع كارثة طبيعية، كان الأسد ما يزال يحتكر العنف، السمة المميزة للدولة الفيبرية**. ونظرًا لعدم قدرته على توفير أي إغاثة للملايين من جماهيره، استخدم الأسد العنف ببساطة لوقف الانفجارات الجماعية. وبحلول العام 2016، استعاد السيطرة على المدن الكبرى، بما فيها مدينة حلب. وبحلول العام 2020، انتهت الحرب الأهلية.
لكن الإجراءات القمعية التي اتخذها الأسد، بما في ذلك الاستخدام المزعوم للأسلحة الكيميائية ضد شعبه، أثارت رد فعل عالميًا جعله هو ونظامه أكثر ضعفًا وجعل أولئك الذين اصطفوا ضده أكثر جرأة. وسرعان ما فقد المورد الوحيد الذي اعتقد أنه يسيطر عليه: احتكار العنف. وفي غضون ذلك، كانت معارضته تتلقى دعمًا من الولايات المتحدة وتركيا (الدولة العضو في حلف شمال الأطلسي والتي لديها أكبر جيش في أوروبا) وإسرائيل والإمارات العربية المتحدة.
غير مدرك لما يجري، كان نظام الأسد المتصلب يتجوف بسرعة. وبعد أربع سنوات من استعادة السيطرة على جزء كبير من سورية، سقط نظام الأسد في غضون 10 أيام فقط، عندما اجتاح تحالف من المعارضة في "هيئة تحرير الشام. وبدأت الحملة الخاطفة للمعارضة بسقوط مدينة حلب المنكوبة بالجفاف في الشمال في 29 تشرين الثاني (نوفمبر). ومنتشية بالجائزة الكبرى، تقدمت قوات "هيئة تحرير الشام إلى حماة". وبعدهما درعا، مهد الثورة المناهضة للأسد، وحمص، جوهرة تاج الزراعة المروية في سورية، التي تم الاستيلاء عليها في 7 كانون الأول (ديسمبر). وكانت حلب وحماة ودرعا وحمص كلها في مرحلة ما مناطق زراعية تمتاز بهبة الخصب.
في 7 كانون الأول (ديسمبر)، وصلت قوات "هيئة تحرير الشام" إلى أطراف جائزتها النهائية، دمشق، العاصمة. وقد تحدى العديد من جنود "هيئة تحرير الشام" قيادتهم ودخلوا المدينة متجاوزين المباني الرئيسية. وفي اليوم التالي، قام الجيش السوري بحل نفسه عمليًا وقامت روسيا بنقل الأسد إلى موسكو. وتقدمت قوات "هيئة تحرير الشام" من الشمال إلى الجنوب وصولاً إلى دمشق ودير الزور في الشرق.
هل يستطيع الحكام الجدد أن ينقذوا سورية من كوارث الجفاف المستقبلية؟ خمسة وخمسون في المائة من سورية هي مناطق صحراوية تحترق من الجفاف. وبسبب درجات الحرارة التي ترتفع باستمرار، تبخر ثلثا نهر الفرات ودجلة والخابور، تاركة وراءها القليل للزراعة المروية. وبالكاد يستطيع الحكام القادمون، الذين تتأسس أوراق اعتمادهم في مهن مدى الحياة في إشعال التمرد، مضاهاة التهديدات الوجودية التي تلوح في الأفق في تغير المناخ أو مظاهره من الجفاف الناجم عن المناخ.
*د. طارق نيازي Tarique Niazi: أستاذ علم الاجتماع البيئي في جامعة ويسكونسن في أو كلير.
*نشر هذا المقال تحت عنوان: The Drought That Felled Assad
**الدولة الفيبرية (A Weberian State) تشير إلى مفهوم الدولة كما قدمه عالم الاجتماع الألماني ماكس فيبر في كتاباته حول السلطة والبيروقراطية. وفقًا لفيبر، فإن الدولة هي مؤسسة سياسية تحتكر الاستخدام المشروع للعنف داخل حدودها الجغرافية. وللدولة الفيبرية عدة خصائص رئيسية.
0 تعليق