في إطار فعاليات معرض القاهرة الدولي للكتاب، اجتمع نخبة من المفكرين والأدباء في الندوة الرابعة للصالون الثقافي، لمناقشة واحدة من القضايا الفلسفية العميقة حول العلاقة بين العلم والتفكير. تناولت الندوة مقولة الفيلسوف الألماني "مارتن "هايدغر: "العلم لا يفكر"، وطرحت تساؤلات جوهرية حول دور الفلسفة في عالم تهيمن عليه التكنولوجيا والذكاء الاصطناعي؛ شارك في الحوار مجموعة من الأساتذة والمفكرين الذين أثروا النقاش بأفكار نقدية عميقة، مؤكدين ضرورة التوازن بين التقدم العلمي والقيم الإنسانية.
بدأ الدكتور أشرف منصور؛ حديثه؛ بالتعبير عن سعادته بهذا التجمع الذي يضم نخبة من رموز الثقافة في العالم العربي، حيث يلتقون لتبادل الآراء والأفكار من المحيط إلى الخليج، وذلك ضمن فعاليات معرض القاهرة الدولي للكتاب، الذي يمثل مناسبة مهمة تجمع المفكرين ببعضهم البعض، كما تتيح لهم التواصل المباشر مع الجمهور.
وأكد في حديثه أهمية اللقاءات الفكرية، مشيرًا إلى أننا نقرأ لبعضنا البعض؛ ونمارس النقد المتبادل، مما يجعل التواصل بين الكتّاب والمفكرين ضروريًا للطرفين، فضلًا عن أهميته للجمهور الذي يتطلع إلى الإنتاج الفكري والأدبي؛ ورغم أن الكتابة تحتاج إلى شيء من العزلة، فإن اللقاءات الفكرية تتيح لنا فرصة التفكير الجماعي بصوت عالٍ.
وفي هذا السياق، تطرق الدكتور أشرف؛ إلى مناقشة المجتمع الرقمي، موجهًا الشكر؛ للدكتور أحمد بهي الدين، أستاذ الأدب والنقد بجامعة حلوان، والدكتور محمد أحمد مرسي، كما خصّ بالشكر والتقدير الدكتور حسام نايل، الأستاذ بأكاديمية الفنون، الذي قام بتنظيم هذه اللقاءات واختيار موضوعاتها وطرحها للنقاش.
وتساءل الدكتور أشرف؛ عن مستقبل العلم في البيئة الرقمية الجديدة، وعن طبيعة "العقل الفعّال" الذي يمكن أن يستخدمه المفكر في هذا العصر؛ وأشار إلى وجود صلة بين العلم الحديث ومفهوم العقل الفعّال الذي كان يشغل الفلاسفة القدماء، مستشهدًا بنظريات الفيلسوف الألماني "مارتن هايدغر"، الذي يُعدّ من أبرز الفلاسفة المعاصرين ومؤسس فلسفة "الظاهريات"؛ وقد وجّه "هايدغر" اهتمامه إلى مشكلات الوجود والتقنية والحرية والحقيقة، وطرح أفكارًا نقدية مهمة حول العقل الحديث؛ ومن أبرز مؤلفاته: "الوجود والزمان"، "دروب موصدة"، "ما الذي يسمى فكرًا؟"، "المفاهيم الأساسية في الميتافيزيقا"، "نداء الحقيقة"، "في ماهية الحرية، ونيتشه".
وأوضح الدكتور أشرف؛ أن "هايدغر" انتقد العقل الحسابي الحديث، لكنه أكد في الوقت ذاته؛ حاجتنا إلى التفكير الحسابي، لأننا اليوم نعيش في عالم غارق في اللاعقلانية.
وفي محاولة للإجابة عن سؤال: "ماذا يعني أن العلم لا يفكر؟"، انطلق الدكتور محمد الشيخ، أستاذ الفلسفة بجامعة الحسن الثاني بالمغرب، من مقولة "هايدغر" الصادمة التي أثارت جدلًا واسعًا في تاريخ الفلسفة؛ وأوضح أن كثيرًًا من مظاهر الواقع الاجتماعي تفتقر إلى العقلانية، مما يفسّر الصدمة التي أحدثتها عبارة هايدغر: "العلم لا يفكر"؛ واستشهد بمثالٍ طرحه هايدغر، حيث قال إنه بمجرد أن وضع الإنسان قدمه على سطح القمر، فقد القمر سحره الشعري، إذ كشف العلم عن كونه مجرد جرم مظلم وقاحل، مما حطم خيال الشعراء حوله؛ كما أشار إلى مفارقة أخرى طرحها هايدغر، مفادها أن الذي اخترع المحرك لم يكن "ديزل"، بل "ديكارت"، لأن النظرة الديكارتية إلى الطبيع هي التي تقوم على إخضاعها للإنسان؛ وهي التي مهدت لهذه الاكتشافات الخارقة؛ وقد تبنّى الفيلسوف "إيمانويل كانط" الفكرة ذاتها، مضيفًا أن الطبيعة يجب أن تُستنطق، بحيث لا يُنظر إليها بوصفها كيانًا جماليًا، بل مصدرًا للاستفادة العملية، تمامًا كما حدث مع نهر الراين، الذي لم يعد يُنظر إليه كرمزٍ شعري، بل كمورد للاستغلال الاقتصادي.
وأشار الدكتور الشيخ؛ إلى أن الفلسفة الأنطولوجية؛ دفعت هيجل؛ إلى التساؤل عن معنى الوجود، كما دفعت هايدغر إلى انتقاد النزعة العلمية التي حطّمت التأملات الرومانسية، رغم أنه لم يكن رومانسيًا، بل كان يدافع عن الفكر بوجه عام؛ وفي هذا السياق، استشهد بواقعة اختراع الديناميت، حيث لم يفكر "نوبل" في عواقب هذا الاختراع، بل انطلق بمنطق أن العلم يسير وراء رغبته في الاكتشاف والاختراع، بغض النظر عن النتائج. وبهذا ربط الدكتور الشيخ هذه القضية بمخاوف العصر الراهن، حيث وصل الذكاء الاصطناعي إلى مستويات متقدمة، مما يطرح تساؤلات أخلاقية حول مستقبل البشرية.
وبعد عرض مستفيض لمفهوم "العلم الذي لا يفكر"، التقط المفكر المغربي الدكتور المهدي مستقيم؛ طرف الحديث، موضحًا أنه للإجابة عن السؤال: "هل العلم يفكر؟"، لا بد من فهم نهج هايدغر في التعامل مع العقل والتفكير؛ وأشار إلى أن الإنسان يمكن أن يمتلك إرادة التفكير، لكنه قد لا يتمكن من ممارستها بصورة كاملة، إذ يتطلب التفكير قدرةً على التأمل والتوقف عند المعاني العميقة للأشياء؛ ولفت إلى أن هايدغر لم يكن يرى في العلم المعاصر مجرد وسيلة لإنتاج المعرفة، بل كان ينتقد اعتماده على الحسابات التقنية وإهماله للبعد الوجودي والإنساني في الفكر؛ وأوضح أن مقولة "العلم لا يفكر" تعني أن العلم لا يطرح الأسئلة الفلسفية العميقة، بل يكتفي بتقديم حلول تقنية لحل المشكلات. وقد أدت هذه النزعة إلى انحسار الفكر الإبداعي، مما يثير القلق حول مستقبل التفكير الفلسفي في ظل هيمنة التكنولوجيا.
واختتمت الندوة بمداخلة الأديبة السعودية آمنة بوخمسين، التي عبّرت عن فخرها بالمشاركة في هذا الحوار الفلسفي العميق؛ وأكدت في حديثها أنه إذا توقف العلم عن التفكير، فإنه يتحول إلى أداة جامدة بلا روح، مشيرة إلى أن التاريخ يثبت أن الإيديولوجيات الجامدة عطّلت العلم لفترات طويلة؛ وأوضحت أن الحروب والصراعات تنشأ عندما لا يمارس الإنسان التفكير النقدي، وأن "العلم هو تاريخ أخطائنا"، وأن على العلماء تشجيع طلابهم على إعادة التفكير في النظريات العلمية وعدم التسليم بها بشكل مطلق؛ وأكدت أن الإنسان يفقد جزءًا من إنسانيته عندما يتوقف عن التفكير، مشددةً على أن الفلسفة لا تؤمن بالبديهيات، في حين يعتمد العلم على المسلمات في كثير من الأحيان؛ وفي هذا السياق، طرحت تساؤلًا مهمًا: "هل يمكن للذكاء الاصطناعي أن يتفوق على تفكير البشر؟"، متسائلةً عما إذا كان الإنسان قادرًا على التحكم في اختراعاته إذا تجاوزت حدوده الأخلاقية.
واختتمت كلمتها؛ بالتحذير من التراجع الأخلاقي في عصر التكنولوجيا، مؤكدةً أننا في أمسّ الحاجة إلى الفلسفة كأداةٍ تعيد التوازن بين العلم والقيم الإنسانية.
وجاءت هذه الندوة لتسلّط الضوء على واحدة من أكثر القضايا الفكرية إلحاحًا في عصرنا الحالي، وهي العلاقة بين العلم والتفكير الفلسفي. وبينما تسعى التكنولوجيا إلى التقدم المستمر، يظل التساؤل قائمًا حول دور الإنسان في هذا المشهد: هل سنظل نمتلك القدرة على التفكير الحر، أم أن العلم الحديث سيقودنا إلى مستقبل تحكمه الحسابات الآلية وحدها؟
0 تعليق