تتمتع بلاد ما بين النهرين، التي يُنظَر إليها غالبًا باعتبارها مهد الحضارة، بتاريخ عريق كمهد للزراعة والكتابة والمدن والابتكارات التي لا حصر لها والتي كانت أساسية للتقدم البشري. واليوم، تضم دولة العراق الحديثة هذه المنطقة القديمة، موطن نهري دجلة والفرات.
ومع ذلك، كانت حرب العراق المدمرة في عام 2003 بمثابة نقطة تحول لمواقعها الأثرية التي لا تقدر بثمن، والتي عانت من أضرار غير مسبوقة ونهب وإهمال.
فى تصريحات لموقع «أوديسا الكتاب المقدس- Bible Odyssey»، يسلط فرانسيس ديبلاو، وهو باحث بارز في بلاد ما بين النهرين القديمة، الضوء على كيف عرّض الصراع التراث الثقافي لهذه المنطقة للخطر، والذي يشمل اتصالات بقصص توراتية مثل جنة عدن وبرج بابل. ويؤكد التأثير الفوري للحرب على الثروة الأثرية في العراق على المسئولية العالمية لحماية هذا التراث الذي لا يمكن تعويضه.
حالة نهب مأساوية
كانت عملية نهب المتحف الوطني العراقي في بغداد واحدة من أكثر حلقات الحرب شهرة. وكان المتحف، الذي يضم أكبر مجموعة من التحف الأثرية التي تعود إلى بلاد ما بين النهرين، ضحية للمخربين واللصوص خلال الأيام الأولى للغزو الأمريكي في أبريل 2003. وعلى الرغم من الجهود التي بذلتها أجهزة إنفاذ القانون العراقية والدولية لاستعادة القطع المسروقة، لم يتم استرداد سوى حوالي 5000 قطعة أثرية، وما زال أكثر من 10000 قطعة مفقودة.
توضح هذه المأساة الثقافية مدى ضعف المواقع التراثية في أوقات الحرب، وخاصة عندما تُترك مثل هذه المؤسسات دون حماية. ورغم أن المتحف أصبح آمنًا الآن، إلا أن ندوب تلك الأيام تظل تذكيرًا صارخًا بهشاشة الكنوز التاريخية.
تدمير السياقات الأثرية
وراء جدران المتحف، واجهت عشرات الآلاف من المواقع الأثرية في جميع أنحاء العراق نهبًا ممنهجًا. ولقد كان الضرر الذي لحق بجنوب العراق، والذي يشار إليه غالباً باسم «مهد الحضارة السومرية»، شديداً بشكل خاص. ويصف ديبلاو هذه المواقع بأنها تحولت إلى «مناظر طبيعية تشبه القمر»، حيث تحولت تلال المدن بأكملها، أو التلال، إلى حقول مليئة بالحفر من قبل اللصوص الباحثين عن القطع الأثرية القيمة.
إن هذه الخسارة تمتد إلى ما هو أبعد من القطع الأثرية نفسها. ففي علم الآثار، يشكل السياق أهمية بالغة. فالقطع الأثرية التي تم العثور عليها في مواقعها الأصلية، بالاقتران بأشياء أخرى، توفر رؤى حول ثقافة وتاريخ الحضارات القديمة. وبمجرد إزالتها دون توثيق، فإن قيمتها العلمية تتضاءل بشكل كبير.
تطوير البنية الأساسية
كان تأثير النشاط العسكري عميقاً أيضاً. على سبيل المثال، تجنبت مدينة أور القديمة، التي اشتهرت بزقورتها، عمليات النهب المكثفة بسبب وجود قاعدة جوية قريبة. ومع ذلك، فإن توسع المنشآت العسكرية تعدى على البقايا الأثرية، مما أدى إلى أضرار لا يمكن إصلاحها. وعلى نحو مماثل، تسبب إنشاء قاعدة عسكرية في بابل القديمة في إحداث اضطرابات في التربة والتحف الأثرية، الأمر الذي زاد من تعريض سلامة هذه المواقع للخطر.
ويشير ديبلو إلى أن بعض الأضرار تعود إلى ما قبل الحرب، مثل تجفيف صدام حسين للأهوار بالقرب من ملتقى نهري دجلة والفرات. وقد تغيرت هذه المناطق، التي ربما كانت مرتبطة بجنة عدن التوراتية، أثناء الحملات العسكرية التي شنها صدام حسين ضد القبائل المحلية. كما لعب التوسع الحضري والزراعة دوراً في التدهور البطيء للمواقع القديمة.
التقدم في الحفاظ والاستعادة
على الرغم من هذه التحديات، فقد قطع المجتمع الدولي والسلطات العراقية خطوات واسعة في معالجة الأزمة. ففي أعقاب عمليات النهب الواسعة النطاق في عام 2003، نجح العلماء في الدعوة إلى قوانين أكثر صرامة لحماية التراث في الولايات المتحدة وسويسرا ودول أخرى. واستأنفت هيئة الآثار والتراث الحكومية أعمال الحفر الخاضعة للرقابة، وخاصة في المناطق المهددة، مع استقرار الوضع السياسي.
وظهرت عدة مبادرات للحفاظ على تراث العراق وتوثيقه. ومن بين هذه المبادرات قاعدة بيانات الكنوز المفقودة من العراق، ومشروع معلومات الحرب والآثار في العراق، ومبادرة المكتبة الرقمية المسمارية، التي جعلت النصوص السومرية والأكادية القديمة متاحة عبر الإنترنت. وتعكس هذه الجهود اعترافاً متزايداً بالحاجة إلى حماية ودراسة التاريخ الثقافي الذي لا مثيل له في العراق.
المسئولية العالمية
تؤكد ديبلاوي أن الحفاظ المستدام يبدأ بتمكين المجتمعات المحلية. ويجب أن يشارك السكان القريبون من المواقع الأثرية بنشاط في إدارتها وحمايتها. ويمكن أن تعمل السياحة كبديل اقتصادي قابل للتطبيق، مما يحفز السكان المحليين على حماية هذه الكنوز بدلاً من استغلالها.
على المستوى الدولي، فإن مكافحة تجارة الآثار غير القانونية أمر بالغ الأهمية. وطالما يستفيد المشترون والوسطاء الأثرياء من القطع الأثرية المنهوبة، فإن هذه السوق السوداء ستستمر. وتشكل آليات الإنفاذ المعززة والعقوبات المفروضة على الاتجار بالآثار ضرورة أساسية للحد من هذه المشكلة العالمية.
إن محنة التراث الأثري العراقي تشكل حكاية تحذيرية حول التكاليف الثقافية للحرب. ورغم إحراز بعض التقدم، فإن حجم الضرر يتطلب بذل جهود مستمرة للحفاظ على ما تبقى. إن حماية المواقع الأثرية في بلاد ما بين النهرين ليست مسؤولية عراقية فحسب، بل إنها ضرورة عالمية.
وكما يشير ديبلاوي بشكل مؤثر، فإن هذه الآثار تقدم رؤى عميقة للتاريخ المشترك للإنسانية. إن تدميرها يحرم الأجيال القادمة من فهم أصولها ويقلل من الثروة الثقافية للعالم. ويتمثل التحدي الآن في ضمان بقاء هذه الآثار الحضارية كشهادة على ماضينا الجماعي.
0 تعليق